الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يبدو أن يوم الثاني من أبريل عام 2025 قد تحول من يوم تحرير liberation إلى يوم تسييل liquidation في الأسوق المالية الدولية بسبب إعلان الإدارة الأمريكية عن فرض نسب تعرفة جمركية شاملة على 185 دولة، تبخرت على إثرها في غضون أيام ثروة تقدر بـ 7 تريليون دولار امريكي مع التراجع الحاد في القيمة السوقية لشركات عملاقة مثل شركة أبل وغيرها.
تطبيق هذه الإجراءات ولفترة طويلة قد تشعل حروب تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة الامريكية وجمهورية الصين. كما أن عدم التوصل لحلول وسطية قد يفضي الى عواقب وخيمة تؤثر على المكاسب من العولمة ممثلة بتقارب الأسواق وتكاملها. من الواضح أن الضرر قد وقع ولكن ما قد يزيد الطين بلة هو المزيد من التصعيد مع كندا والمكسيك وكذلك مع دول الاتحاد الأوروبي والتي تتجه منذ فترة لفرض قيود تنظيمية وغرامات على شركات تقنية أمريكية مثل جوجل. وهذه الحروب أو على الأقل التهديد بها قد تخلق تحالفات (ولو لفترة مؤقتة)، بما في ذلك تقارباً صينياً وأوروبياً ومزيد من التوسع الصيني في دول نامية ليس فقط في الدول المجاورة لها مثل فيتنام ولكن أيضاً في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.
بدأت الأسواق المالية تسترد مؤخراً جزء من عافيتها بسبب “تأجيل” فرض هذه الرسوم ولكن من المؤكد أن السمعة الدولية للولايات المتحدة كمدافعة عن التجارة الحرة وراعية لفلسفة حرية الأسواق قد تضررت باعتبارها أهم ركائز النظام الرأسمالي الذي تتبناه وتستخدمه في المحافل لمجابهة العديد من الدول، لاسيما تلك التي تتبنى التخطيط المركزي وتدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي.
اللافت أن التذبذب الحالي في تنفيذ القرارات زاد من حالة عدم اليقين مع طعن في مستوى الشفافية التي تميزت بها الأسواق الأمريكية مقارنة بغيرها بما في ذلك الأسواق الأوروبية، خصوصاً مع وجود تهم التلاعب بالسوق. كما أن اللجوء إلى فرض التعريفات الجمركية بشمولية، قد يترتب عنها تبعات سلبية على مكانة الدولار الأمريكي بصفته عملة قيادية وعملة احتياط لدى البنوك المركزية في الدول الأخرى، لأن الاستخدام الدولي الواسع للدولار نابع أصلاً من اتساع نطاق العلاقات التجارية الأميركية مع معظم الدول.
التوجه نحو السياسات الحمائية ممثلة بفرض رسوم جمركية عالية واتفاقات ثنائية صارمة يذكرنا بفترة “التجاريين”، والمعروفين بتبنيهم المطلق لأفكار المدرسة التجارية ” Mercantilism ” القائمة على القومية الاقتصادية والتي كان من أبرز منظريها الانجليزي توماس مون Thomas Mun. فقد هيمنت هذه المدرسة على الفكر الاقتصادي للحكومات الأوروبية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر والتي كان جٌل همها تقليص العجز في الميزان التجاري وتحويله إلى فائض.
عملياً، لا يمكن للإدارة الأمريكية الحالية أن تستنسخ تماماً السياسات الحمائية التي تبناها التجاريون وذلك لاختلاف الظروف والمعطيات الدولية والمرحلة التاريخية عن تلك التي سادت قبل ثلاثة قرون خصوصاً ونحن في عصر العولمة والترابط الكبير في سلاسل الإمداد. كما أن الرسوم الجمركية من شأنها أن تزيد من تكلفة الإنتاج للسلع المحلية بسبب ارتفاع أسعار السلع الوسيطة المستوردة والتي فرضت عليها التعرفة، وخير مثال لذلك صناعة السيارات واعتمادها على مكونات مركزية مصنعة ومستوردة من دول أخرى قد لا تكون بالضرورة صديقة كما هو الحال بأشباه الموصلات الصينية. لذا فالاستمرار في فرض تعرفة جمركية شاملة ليس فقط يعكس تخلياً مباشراً عن مبدأ الميزة النسبية التي تضمن كفاءة التجارة الدولية القائمة عليه ولكن من شأنه تخفيض تنافسية الصادرات وتضحية بالعوائد الاقتصادية من التجارة لجميع الأطراف.
إن مخططي التبني للسياسات الحمائية الواسعة والتي قد تجر العالم لحروب تجارية طائلة يجب أن يتعظوا بتجربة التجاريين، فالنجاحات التي جنتها أوروبا في تلك الحقبة كانت بشكل عام محدودة وأغلبها نتاج عوامل ليست ممكنة حالياً كالتوسع الاستعماري السافر لمناطق ثرية. بل يمكن القول أن الفكر التجاري كان سبباً لتدهور الكفاءة الإنتاجية في أوروبا بسبب انشغالها بالحروب العسكرية والصراعات التجارية بين دولها على مناطق النفوذ وطرق التجارة بدافع التنافس على الاستحواذ على مصادر المعادن النفيسة من الذهب والفضة.
إن مجرد التهديد الحالي بإشعال حروب تجارية وصراع عملات دولية كفيل برفع احتمالات دخول الاقتصاد العالمي بما في ذلك الاقتصاد الأمريكي بمرحلة ركود اقتصادي موجع لا يمكن توقع تداعياته، مما سيزيد من المخاوف والتي نتج عنها تراجعاً حاداً في أسعار العملات والسندات (طويلة الأجل) والسلع، بما في ذلك النفط الذي تعاني اسعاره من هبوطاً ومنذ فترة وحتى قبل هذه الأزمة الدولية المفتعلة والتي من شأنها الإضرار بالصناعة النفطية الأمريكية كذلك.
رغم أهمية عجز الميزان التجاري في حسابات الناتج المحلي باعتباره أحد مكوناته إلا انه يبقى كمفهوم حسابي محدود بالمقارنة بالحساب الجاري (وكذلك ميزان المدفوعات) وقاصر عن توصيف التعاملات الاقتصادية والمالية المتشابكة بين الدول، التي تشمل الخدمات بما في ذلك عوائد الخدمات المالية وتنقلها عبر الحدود. فحرية التجارة تحمل معها ايجابيات عدة للجميع، منها توفر خيارات أكثر للمستهلكين والحد من الاحتكارات المحلية ووصول الشركات المحلية لأسواق أكبر والاستفادة من اقتصاديات الحجم بالإضافة إلى توفر موارد إضافية للمنتجين المحليين وتيسير تراكم عملات أجنبية تستخدم لتمويل الواردات.
إن التجارة بين الدول ليست بالضرورة لعبة صفرية لأنها ليست مقارنة حجم صادرات بواردات سلعية فقط بل هي أيضا صادرات وواردات من خدمات غير ملموسة وتحويلات وتحركات مالية ثنائية. على سبيل المثال، تستورد أمريكا سلعاً مصنعة بقيمة تتجاوز 200 مليار دولار وفي المقابل تصدر خدمات غير ملموسة بقيم قد تتجاوز ذلك ممثلة بمنتجات شركات التقنية الكبرى وخدمات إدارية من بيوت خبرة وخدمات مالية من بنوك وشركات فنتك وصناديق تحوط وإدارة مخاطر تديرها شركات مثل بلاكروك، أي أن العجز في الجانب السلعي لصالح الدول الأخرى يعوضه الفائض في الجانب الخدمي.
من ناحية أخرى، قطاع التصنيع الأمريكي لايزال ضخماً جداً حيث بلغ حجمه 2.6 تريليون دولار في عام 2022 (ترتيبه الثاني بعد الصين عند 5 تريليون دولار)، كما يفوق مجموع القطاع الصناعي لأربع دول، وهي اليابان وألمانيا وكوريا والهند بقيمة 2.5 ترليون دولار. ولذا فالادعاء بتراجع القطاع الصناعي الأمريكي وخسارة الوظائف فيه مبالغة وتجاهل لتغير طبيعة الاقتصاد الأمريكي والعالمي أيضاً، في وقت يشهد فيه قطاع التقنية الأمريكي تطوراً هائلاً كما يعكسه بروز شركات ضخمة جداً مثل ابل وغوغل وميكروسوفت وميتا ونيفيدا وغيرها.
أحد مبررات فرض الرسوم الجمركية هو السعي لإعادة الصناعة للاقتصاد الأمريكي ولكن هذا قد لا يحقق الكفاءة في التجارة الدولية القائمة على التخصص، خصوصاً وأن أغلب النشاط الاقتصادي فيما يعرف “بالدول الصناعية” أصبح خدمي وليس صناعي.
تشير البيانات المتوفرة إلى أن نسبة القطاع الصناعي لا تتجاوز 11% من الناتج المحلي الأمريكي وتبلغ 14.1 % من اقتصادات دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD)). كما أنه حتى بافتراض نجاح الرسوم الجمركية في إعادة المزيد من نشاطات التصنيع الى الاقتصاد الأمريكي إلا أنه لا يمكن الجزم بزيادة التوظيف في القطاع الصناعي بسبب تزايد الاعتماد على الأتمتة والاستناد على الكثافة العمالية في القطاعات الخدمية (مثل السياحة والنقل) وعدم رغبة الكثيرين من العودة للأعمال الصناعية التقليدية.
تجدر الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية تبرر هذه الإجراءات انطلاقاً من إيمانها بأن الموضوع ليس قضية تجارة حرة بقدر ما هو قضية تجارة عادلة، ولكن حتى لو كان هذا الادعاء صحيحاً فحصر المشكلة في عجز الميزان التجاري المنخفض نسبياً الذي لا يتجاوز 4% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي هو اختزال للمشكلات الاقتصادية الراهنة التي يواجها العالم.
من الوارد أن ثمة أهداف أخرى أعم من معالجة عجز الميزان التجاري تستحق الانتباه وقد يكون من أبرزها إيجاد حلول مالية ونقدية لمشكلة الدين العام الأمريكي الذي يصل الى 36 ترليون دولار، والمتراكم عبر عقود تحت نظر رؤساء وكونجرس من كلا الحزبين. لذا فتشخيص هذه المشكلات الاقتصادية المشتركة يتطلب أن تكون الحلول شمولية وتأخذ بالاعتبار سلامة واستقرار الاقتصاد الدولي المترابط بشكل متزايد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال