الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
دعنا نتفق في البداية على أمرٍ هام، ليست كل وجهة سياحية خلقتها الطبيعة، بعضها خلقها خيال الإنسان، والبعض الآخر خلقها مسؤول في حكومةٍ ما، استيقظ ذات صباح، وقرر أن يجعل من زاوية منسية على خارطة بلاده إلى نقطة التقاء لسكّان الأرض.
خذ على سبيل المثال، مدينة بلباو في شمال إسبانيا. مدينة كانت تعرفها الخرائط بوصفها مكانًا صناعيًا شاحبًا، تُنقل إليها حاويات الفحم والحديد، ثم تُنسى بعد ذلك. حتى جاء القرار، الذي لا نعلم إن كان قد ولد من فنجان قهوة، أو من لجنة حكومية في المدينة، وقال: لماذا لا نبني متحفًا هنا؟ متحفًا ليس عاديًا، متحفًا لا يشبه أي شيء، نريده بأكثر حالٍ ممكن من الغرابة في تصميمه وتأثيره، وفعلًا، أنظر للعلامة الأبرز في بلباو، ستجده متحف غوغنهايم.
بُني المتحف، أصبح يجذب أكثر من مليون زائر سنويًا، وغيّر من شكل المدينة، ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحدّ، ولدت عبارة جديدة، دخلت في أدبيات الاقتصاد والعمارة، وهي “تأثير بلباو – Bilbao Effect” والتي تعبّر عن ظاهرة تحدث عندما تشهد مدينة تحولًا حضريًا واقتصاديًا كبيرًا، تم من خلال بناء معالم معمارية أيقونية. ما الذي تغيّر في بلباو برأيك؟ في الحقيقة لا شيء، لا الجغرافيا تغيّرت، ولا المناخ تغيّر. الذي تغيّر هي السرديّة، الرواية الجديدة التي كُتبت للمكان.
هذا ما يعرف بمصطلح “صناعة المكان – Placemaking“، وهو أن تعيد تشكيل الحكاية حول المكان، ثم تترك الناس يعيشون داخل هذه الحكاية. نعم، بإمكانك أن تملك كل المقومات الطبيعية وتفشل، ويمكنك أن تملك لا شيء وتصنع كل شيء، ما الفرق؟ شخص قرر أن يروي القصّة.
إذًا الوجهة تُصنع، ولا توجّد وجهة عظيمة إلا كان خلفها قرار حكومي أو مبادرة غير مسبوقة في عقل القطاع الخاص. تأمل تجربة رواندا، دولة كانت تُعرف -في الذاكرة العالمية- بالحرب الأهلي والمجازر الجماعية، لا بحر، ولا ناطحات، لكنها فعلت شيئًا واحدًا: وضعت استراتيجي وطنية للسياحة، جعلت فيها القطاع السياحي جزءًا من مشروع الدولة، لإعادة بناء الاقتصاد، تحسين الصورة الذهنية، وتنويع مصادر الدخل.
اعتمدت على ما يعرف في الاقتصاد، بنموذج “السياسة الموجّهة للوجهة – Policy-Driven Destination” حيث تكون الحكومة هي المبادر، والمخطط، والمنسّق بين القطاعين العام والخاص. ولم تقف في انتظاره القطاع ينمو، إنما خلقت السوق، واختارت مجالًا محددًا وهو “السياحة البيئية الفاخرة – High-End Eco-Tourism” والنتيجة؟
أصبحت 15% من الناتج المحلي الإجمالي لرواندا يأتي من السياحة، بإجمالي إيرادات مباشرة يتجاوز 620 مليون دولار، وأصبحت رؤية الغوريلا تجربة دولية تُحّجز قبل أشهر، بسعر يتجاوز 1500 دولار للشخص. لك أن تتخيل أن كل هذا في بلد لم يُنظر إليه إلا من خلال مآسيه. نسأل مرة أخرى، ما الذي تغيّر؟ ونجاوب أيضًا، لا شيء. لم تتغير الطبيعة، تغيّر القرار، وصُنعت السردية الصحيحة.
هنا يجب أن نشير إلى مبدأ -ولا أعرف ما إذا كان سيتفق معي المستثمر-، ولكن السردية في الوجهة تسبق الاستثمار. لأن السائح مهما بدا منطقيًا وهو يقارن بالأسعار، إلا أن اللحظة التي سيقرر بها قلبه، هي لحظة الغَلبة. ففي مفاهيم تطوير الوجهات، يتكرر مصطلحان قد يبدوان متشابهين، لكن الفرق بينهما جوهري في المعنى وفي التوقيت:
الفرق الأساسي بينهما، أن سرديّة الوجهّة هي ما يقنع المستثمر والسائح أن يأتي، وتشكُّل القصة هو ما يجعله يبقى ويعود. فبالنظرة الكبيرة للأشياء، تبدأ القصة بالسردية الكبرى ثم بعد ذلك تترجم هذه السردية إلى تجربة عيش.ختامًا، لا أحد يسافر لأجل سعة الغرفة، ولا يقطع آلآف الكيلومترات ليرى برجًا أصم، الناس تسافر لتشعر، لتعيش لحظة لم يكن مخططًا لها. والمفارقة الساخرة؟ أن بعض المدن تملك كل شيء.. إلا ما يجعل الزائر يريد أن يبقى.
الرسالة هنا: ربما.. فقط ربما.. ما يصنع الفرق بين مدينة تُزار ومدينة تعاش، هي فكرة واحدة فقط.. لم يجرؤ أحد على سردها بعد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال