الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
جاءت الرياح الاقتصادية الأمريكية كعاصفة تطرق ابواب العالم من جديد. لتعيد رسم قواعد اللعبة الاقتصادية للدول المرتبطة بالدولار أو الساعية للتحرر منه. يبدو أن المشهد أصبح أكثر تعقيدا.
الولايات المتحدة اليوم تمثل بنك مركزي عالمي ضخم، لا تكتفي بتوجيه اقتصادها برفع الفائدة، بل ترسل تياراتها الجمركية كأمواج محيطية تخترق اقتصادات العالم، تحاول من خلالها إعادة تشكيل قواعد الاقتصاد.
فلم يعد استخدام الفائدة كأداة نقدية محلية يعتمد عليها البنك الفيدرالي لامتصاص السيولة وتقليل الطلب على النقود كافياً، نظراً لمحدودية تأثيره على الاقتصادات المرتبطة بالدولار وعلى الاقتصاد المحلي بشكل مباشر.
بالمقابل، تمثل الرسوم الجمركية قرارا سياديا عالميا يتجاوز نطاق الاقتصاد المحلي، لتعيد تشكيل التجارة وسلاسل التوريد بطرق تؤثر على المشهد الاقتصادي العالمي بأسره.
صراع اقتصادي بحجم الجبال
تعد الولايات المتحدة والصين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، حيث يمثل الاقتصاد الأمريكي حوالي 24.7% من الناتج الإجمالي العالمي، بينما تمثل الصين حوالي 18.7% وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي لعام 2024.
إذا كانت الولايات المتحدة تشبه جبلا شامخا يحاول إعادة تشكيل الأودية المحيطة به عبر التحكم بمسارات الأنهار، فإن الصين تمثل جبلاً ضخماً آخر يقف في وجه هذا التدفق بعناد وتصميم. فهي ليست متلقية سلبية، بل من الممكن ان تزيد من فرض رسوم مضادة على الشركات الأمريكية بالإضافة الى الرسوم الجمركية. مما يضر بشركات مثل Apple وTesla. او سياسات أخرى ذكرتها في مقالي السابق المنشور تحت عنوان “ التعريفات الجمركية مجرد قشرة لصراع أعمق”
كما أن المنتجات الأمريكية المصنّعة في الصين تعتمد غالبا على أجزاء مستوردة من الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى تكاليف مضاعفة عند استيرادها ثم إعادة تصدير المنتج النهائي.
إعادة تشكيل سلاسل التوريد والإنتاج الأمريكي
أحد الأهداف الأساسية لهذه القرارات هو إعادة توطين الإنتاج لتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الخارجية، عن طريق دفع الشركات الكبرى لنقل عملياتها إلى الداخل. خصوصا تلك المرتبطة بالصين. هناك تقرير صادر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (CFR) يشير إلى أن 30% من السلع الصناعية الأمريكية يتم تصنيعها في الخارج، مما يخلق عجزاً تجارياً سنوياً يصل إلى 700 مليار دولار.
تحت المجهر
أرى أن القرارات الاقتصادية الأمريكية أدوات قابلة للتعديل وفق متغيرات الزمن القريب، فالعالم لا يحتمل نظاماً جديداً أشبه بـ”رأسمالية ماركسية” تقيد حرية الأسواق بصرامة.
تسعى الولايات المتحدة لتقليم شجرة الاقتصاد العالمي عبر تعزيز الإيرادات الضريبية بتوطين الإنتاج وتقليل البطالة دون المساس بالجذور، لمعالجة سقف الدين العام وتحقيق مكاسب بعيدة المدى. ورغم قسوة هذه السياسات، إلا أنها تعزز مؤقتاً امتصاص الدولارات بالرسوم الجمركية، مما يخفف التضخم عالمياً ويرفعه داخلياً. كما يمتد تأثيرها للدول غير المرتبطة بالدولار عبر تسديد الرسوم الإضافية بالدولار لتعزيز استقرارها.
ورغم ان التفكير في العودة للمقايضة كخيار استراتيجي فكرة بعيدة عن الواقع، لكنها قد تصبح حيلة ذكية مؤقتة لتجاوز قيود الجمارك وهيمنة الدولار. او قد تلجئ الشركات الكبرى لنقل عملياتها إلى دول أقل تكلفة مثل فيتنام والهند.
ورغم مكاسبها المحتملة على المدى الطويل، تتناقض هذه السياسات مع مبادئ حرية الأسواق الرأسمالية التي شكلت أساس الازدهار. في المقابل، أثبتت الاقتصادات التي تبنت التنويع الحقيقي وراكمت احتياطاتها النقدية قدرتها على التكيف مع التحولات العالمية. التحرك المبكر لتقليل الاعتماد على قطاع محدد يعكس بُعد نظر حكيم في مواجهة تعقيدات الاقتصاد.
“الاقتصادات التي تبني جسوراً متعددة لا تخشى انهيار أحدها، بل تتعلم بناء جسور أقوى. في عالم متغير المرونة.”
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال