الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
خلال سنوات من العمل القيادي في قطاع التقنية والتحول الرقمي، كان لي الحظ بخوض تجربة الاشراف على تأسيس مكتب إدارة مشاريع تقنية المعلومات والتحول الرقمي. لم يكن المكتب مجرد كيان تنظيمي، بل فكرة تحوّلية متكاملة هدفت إلى إحداث أثر ملموس ومستدام من خلال إدارة المشاريع التقنية باحترافية، وبتكامل بين مختلف الجهات المعنية.
بداية الرحلة لم تكن سهلة، لكنها كانت مشبعة بالشغف والرغبة في التغيير الحقيقي. لم تكن البداية سوى ملف “إكسل” لمتابعة حالة المشاريع التقنية داخل القطاع وتقرير اسبوعي يستعرض لصاحب الصلاحية الطلب للدعم واتخاذ القرار، بداية بسيطة لكنها كانت كافيًا لتكشف لنا فجوة كبيرة لكن لم يكن هناك منهجية موحدة، ولا أدوات حوكمة، ولا تكامل بين الجهات
عدد كبير من المشاريع التقنية يتم ادارتها من قبل المهندسين التقنيين في الإدارات المعنية والذين لا يملكون الوقت لذلك.
نحتاج إلى إدارة مشاريع تقنية تدار باحتراف تراقب بأدوات، وتفعل بأثر ومن هذا الإدراك، وبدعم من القيادة، تم تأسيس “نموذج مكتب إدارة المشاريع التقنية المتكامل”. لم تكن الغاية إنشاء مكتب تقليدي، بل بناء نموذج تشغيلي متكامل يضمن أن كل مشروع تقني لا يُسلم فحسب، بل يُفعل، ويُستخدم، وتستدام قيمته داخل المؤسسة.
ولأن المشاريع التقنية لا تكتمل قيمتها بمجرد تسليمها، بل بتفعيلها واستدامتها، جاءت الرؤية في بناء إدارة تعتمد نموذجا تشغيليا متكاملاً.
هذا النموذج حيث يرتكز على ثلاث إدارات متخصصة، تشكل بمجموعها أعمال مترابطة وفاعلة، هي: إدارة العقود والموردين، مكتب إدارة المشاريع، ومكتب إدارة التغيير.
يهدف النموذج الى ضمان التكامل والانتقال السلس والمنظم بين المراحل المختلفة. فهو يحدد معالم واضحة لكل خطوة من خطوات المشروع، وتضافر جهود عدة أطراف رئيسية مما يقلل الفجوات ويضمن الاستعداد المسبق لما تتطلبه كل مرحلة ومن خلال هذه الرحلة الممنهجة، يصبح لدى القيادة وأصحاب المصلحة رؤية شاملة لمراحل المشروع من البداية حتى تحقيق القيمة المستدامة في النهاية.
إدارة العقود والموردين ورحلة المشروع
كما نعلم تبدأ رحلة المشروع منذ لحظة إعداد كراسة المنافسة، حيث تعني إدارة العقود والموردين بمسؤولية مراجعة الكراسة فنيا وتنظيميا، والتأكد من وضوح نطاق العمل وشروط الطرح، بما يضمن جاهزية المشروع. يتبع ذلك متابعة دقيقة لمراحل طرح المشروع، وتحليل العروض المقدمة، وإتمام مرحلة الترسية وفق أعلى المعايير والشفافية، مع التزام تام بإجراءات التعاقد والتوثيق.
ويمتد دور الإدارة لما بعد الترسية، إذ تتابع الفوترة وحالة الصرف، مراجعة المخرجات التحقق من الالتزامات وإعداد تقارير دورية تربط مباشرة بمستوى الإنجاز الفعلي، مما يعزز من حوكمة الصرف.
التكامل هنا يكمن في مرحلة كتابة الكراسة حيث تعمل إدارة العقود والموردين تزامنا مع مكتب ادارة المشاريع ومكتب إدارة التغيير, دور مدير المشروع يبدأ فعليًا منذ مرحلة إعداد كراسة الطرح وليس فقط بعد توقيع العقد أو بداية التنفيذ كما يظن البعض من حيث صياغة المتطلبات الفنية وتحديد المخاطر المحتملة وتقدير التكاليف والمدة وغيرها, ويبدأ مدير التغيير بتحليل حجم التغيير، وتحديد مستوى التأثير، ونوعية الجهات المتأثرة، وتبنى على ذلك خطة تغيير محكمة ترفق بالكراسة وتدمج في تقييم المشروع
مكتب إدارة المشاريع القيادة التنفيذية
بعد إتمام الترسية، ينتقل المشروع إلى مكتب إدارة المشاريع الذي يتولى فيه مدير المشروع قيادة المشروع وقد تقمنا بتطوير منهجية موحدة لإدارة المشاريع التقنية تستند إلى أفضل الممارسات العالمية، مما ساهم وضمان تقدم الأعمال وفق المخطط, حيث يقوم مدير المشروع بمهامه المعتادة كمتابعة جدول المشروع .
في نسب الإنجاز، ورصد المخاطر ويعالج أي انحراف عن الخطة ، كما ينسق بين فرق التقنية داخل المؤسسة وفريق عمل المورد الخارجي. يرفع مكتب المشاريع تقارير دورية للإدارة العليا حول مدى التقدم والعوائق إن وجدت، بالتكامل مع إدارة العقود والموردين حيث تفعل دورها الرقابي لضمان التزام المتعاقد بشروط العقد ومواعيد التسليم.
تتابع هذه الإدارة إدارة التوريدات وطلبات الشراء الخاصة بالمشروع، وتدقق في جودة المخرجات المقدمة من المورد قبل قبولها، كما تشرف على صرف الدفعات المالية وفق نسب الإنجاز وتطبيق بنود العقد المتعلقة بالجزاءات أو التغييرات التعاقدية عند الحاجة. وعلى الجانب الإنساني للمشروع، تنفذ إدارة التغيير خطتها لإدارة التغيير المؤسسي: تكثف التواصل مع المستخدمين للمخرج التقني الجديد، وتوفر برامج التدريب والدعم لهم، وتستقبل ملاحظاتهم حيث تركز إدارة التغيير على تعزيز تبنّي الحل التقني من قبل الموظفين وضمان استعدادهم الكامل لاستخدام الأنظمة أو العمليات الجديدة في أعمالهم اليومية. ويمكن القول إن هذه المرحلة تشهد عملاً تكامليا حقيقيًا، حيث تعمل الإدارات الثلاث جنبًا إلى جنب لضمان نجاح التنفيذ من الناحيتين التقنية والبشرية.
لا يكتفي المكتب بإدارة المشروع، بل يعمل بتكامل مباشر مع العقود المواءمة الصرف مع المخرجات، ومع إدارة التغيير لضمان الاستعداد المؤسسي للتبني الفعلي للحلول.
مكتب إدارة التغيير من البدء حتى الاستدامة
لا تعامل إدارة التغيير كطرف ثانوي لاحق، بل تُفعّل من اللحظة الأولى للمشروع كما ذكرنا سابقا حيث تبدأ بتحليل حجم التغيير مستوى التأثير، ونوعية الجهات المتأثرة، وتُبنى على ذلك خطة تغيير محكمة ترفق بالكراسة وتدمج في تقييم المشروع.
وعلى امتداد مراحل التنفيذ، تشرف الإدارة على إعداد خارطة التغيير، وتفعيل خطط التواصل والتدريب، وبناء شبكة من الرعاة وسفراء التغيير داخل الإدارات المستهدفة.
وعند الإطلاق، تكون الجاهزية عالية، ويُنفذ التغيير بطريقة سلسة ومدروسة.
ولا يتوقف الدور عند التسليم، بل تُتابع مراحل التبني والاستخدام الفعلي، وتُقاس النتائج من خلال أدوات دقيقة مثل الاستبيانات والمقابلات وتحليل البيانات التشغيلية.
ومن خلالها توضع خطط دعم واستدامة تضمن استمرار الأثر بعد المشروع من التنفيذ إلى الأثر خلال هذه التجربة الممتدة لعدة سنوات، تبلور نموذج عمل تكاملي أثبت فعاليته في إدارة مشاريع التقنية والتحول الرقمي.
يقوم هذا النموذج المتكامل على دمج هيكلي وتنظيمي وثيق بين مكتب إدارة المشاريع وإدارة التغيير وإدارة العقود والموردين، بحيث لا تعمل كل جهة بمعزل عن الأخرى، بل تجتمع تحت مظلة حوكمة واحدة ورؤية موحدة.
عماد هذا النموذج هو التنسيق المستمر والتواصل الفعّال: فالفريق المسؤول عن المشروع يضم ممثلين من الإدارات الثلاث منذ اليوم الأول للمشروع، يعملون جنبًا إلى جنب في التخطيط والتنفيذ وحل المشكلات.
يتسم هذا النموذج بأن مكتب إدارة المشاريع يصبح بمثابة منصة مركزية تجمع المعلومات والقرارات المتعلقة بالمشروع بشكل شمولي. فمثلا، يتم إشراك مسؤولي إدارة التغيير والعقود في اجتماعات متابعة المشروع الدورية مما يضمن أن أي تحديث في الجدول الزمني أو نطاق العمل يكون معلومًا للجميع ويتم أخذ أثره على الموظفين أو على العقود بعين الاعتبار.
وبالمثل، فإن التحديات التي تظهر أثناء التنفيذ – سواء كانت تقنية أو إجرائية أو بشرية – يُنظر إليها عبر عدسة مشتركة، ما يسهل طرح حلول متكاملة تعالج جميع الجوانب.
لقد أدى هذا التكامل إلى تسريع عمليات اتخاذ القرار، فبدلاً من تصعيد كل قضية عبر تسلسل إداري معقد، يتوفر فريق موحد قادر على البت الفوري في كثير من الأمور استنادًا إلى فهم شامل للمشروع.
ضمن النموذج التكاملي أيضًا، توفر الإدارة العليا دعما واضحًا وحاسمًا لهذا الفريق الموحد. فقد تم إنشاء لجنة توجيهية عليا تتابع سير مشاريع التحول الرقمي، بحيث تقدّم التوجيه والتمكين عند الحاجة.
تحت هذه اللجنة يعمل النموذج المتكامل كوحدة تنسيقية عليا تضم في هيكلها التنظيمي قسماً لإدارة التغيير وقسماً لإدارة العقود والموردين وقسما لمكتب المشاريع، النتيجة هي هيكل حوكمة يضمن وضوح الأدوار وتكاملها وجميعها تتشارك الأهداف نفسها وتقيس نجاحها بمؤشرات مشتركة.
هذا التكامل المؤسسي شكل نموذجا يحتذى به، حيث أصبحت إدارة المشاريع التقنية ليست مجرد متابعة لمهام فنية، بل عملية تحول شاملة تضم الجانب التقني والتنظيمي والبشري معًا.
الأثر المؤسسي المتحقق
على مدى سنوات من تطبيق هذا النموذج التكاملي في إدارة المشاريع التقنية، حققت المؤسسة نتائج ملموسة أسهمت في رفع مستوى إدارة المشاريع التقنية بشكل ملحوظ. أبرز هذه الآثار كانت
.رفع كفاءة التنفيذ: تحسنت معدلات إنجاز المشاريع بشكل كبير، فأصبحت تُنفّذ ضمن الجداول الزمنية المحددة في غالب الأحيان مع ضبط أفضل للتكلفة ونطاق العمل. انخفاض التأخيرات والتعديلات الطارئة يُعزى إلى التخطيط المحكم والرقابة المستمرة من قبل مكتب إدارة المشاريع، مما أدى إلى استخدام أكثر فعالية للموارد المتاحة ورفع كفاءة عمليات التنفيذ ككل.
تحسين التنسيق: ترسخت أساليب عمل أكثر تكاملاً في وجود منهجية موحدة وإجراءات واضحة للتواصل هذا التناغم قلل من التضارب في المهام وضاعف سرعة الاستجابة للمتطلبات المستجدة، مما انعكس إيجابًا على قدرة المؤسسة على تنفيذ عدة مبادرات في آن واحد بمرونة وانسجام.
تعزيز ثقافة التغيير شكل الاهتمام المكثف بإدارة التغيير فارقًا جوهريا في ثقافة المؤسسة. بات الموظفون أكثر تقبلا للمشاريع التقنية الجديدة وأقل مقاومة للتغيير عما كانوا عليه سابقًا من خلال برامج التوعية والتدريب والمشاركة التي قادتها إدارة التغيير، نشأت قناعة أوسع لدى العاملين بأهمية التحول الرقمي ودوره في تحسين خدمات المؤسسة. ونتيجة لذلك، ظهرت مبادرات ذاتية من الفرق الداخلية لاقتراح أفكار تطويرية وأصبح التغيير يُنظر إليه كفرصة للتحسين لا كمصدر تهديد، مما عزز ثقافة الابتكار والتحسين المستمر.
. رفع مستوى الجاهزية: ارتفع مستوى النضج في إدارة المشاريع داخل المؤسسة، وأصبحت أكثر جاهزية واستعدادًا لاستقبال المزيد من المشاريع والمبادرات المستقبلية. تم تطوير أطر عمل وإجراءات قياسية لإدارة المشاريع التقنية أصبح الجميع ملتزما بها، مما يعني قدرة المؤسسة على تكرار نجاح المشاريع بدل البدء من الصفر في كل مرة.
كذلك، من خلال الدروس المستفادة التي تم توثيقها في نهاية كل مشروع تراكمت معرفة مؤسسية قيمة يمكن الرجوع إليها والبناء عليها. هذه الجاهزية المعرفية والتنظيمية عززت ثقة القيادة بقدرة فرقها الداخلية على قيادة مشاريع التحول بنجاح، وجعلت المؤسسة أكثر مرونة في التكيف مع متطلبات التكنولوجيا الحديثة وتحدياتها.
خاتمة الدروس المستفادة وقابلية تطبيق النموذج
تؤكد هذه التجربة العملية أن التكامل والدمج بين الإدارات تحت مظلة واحدة في الهيكل التنظيمي “نموذج مكتب إدارة المشاريع التقنية المتكامل” هو عامل حاسم لتحقيق نجاح مستدام في مشاريع التحول الرقمي.
من أبرز الدروس المستفادة أن النظرة الشمولية للمشاريع التي تجمع بين الجوانب التقنية والإدارية والبشري تضمن تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة من المشروع وليس مجرد إنجاز المهام الفنية.
كما برزت أهمية الدعم القيادي في تمكين مكتب إدارة المشاريع ومنحه الصلاحيات اللازمة، كما اتضح أن الاستثمار في العنصر البشري عبر إدارة التغيير والتواصل الفعال يرفع من معدلات تبنّي الأنظمة الجديدة ويضمن جني الثمار المخطط لها من المشروع.
إن قابلية تطبيق هذا النموذج التكاملي عالية في مؤسسات وجهات أخرى تسعى للنجاح في مسيرة التحول الرقمي.
بطبيعة الحال قد تختلف التفاصيل بحسب حجم المؤسسة وطبيعة مشاريعها، لكن الركائز الرئيسية تبقى نفسها هيكل حوكمة يتبنى التكامل بين فرق المشروع المختلفة، وثقافة تنظيمية تتقبل التغيير وتعزز التعلم المستمر، ومنهجية واضحة لإدارة المشاريع منذ الفكرة وحتى تحقيق القيمة بتوفر هذه المقومات إلى جانب الالتزام الجاد من الإدارة العليا، يمكن لأي جهة تبني نموذج مكتب إدارة المشاريع التقنية المتكامل لتحقيق قفزة نوعية في طريقة إدارة مشاريعها ورفع جاهزيتها لمستقبل رقمي واعد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال