الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، يبدو أن التوترات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي تعود من جديد لكن مع تداعيات اكثر تعقيدا هذه المرة. و بعد أن كانت العلاقات التجارية بين الطرفين خلال ولايته الأولى مليئة بالتهديدات والرسوم الجمركية، عاد الرئيس الأمريكي ليجدد خطاباته الصارمة، وسياسته الاقتصادية الحاده، مؤكدًا على ضرورة تعديل التوازنات الاقتصادية لصالح بلاده.
في هذا السياق، قرر ترمب فرض رسوم جمركية جديدة بنسبة 25% على واردات الصلب والألومنيوم الأوروبي، والتي دخلت حيز التنفيذ في 12 مارس الماضي وأشار إلى انه من المحتمل ان يفرض رسوم جمركية أيضا على النحاس. ولوح بفرض رسوم جمركية على جميع واردات السيارات وأشباه الموصلات والأدوية خلال أبريل الجاري الذي كما وصفه سيكون يوم تحرير لبلاده ويستعيدون جزء من ثرواتهم ، موجهاً أصابع الاتهام إلى الاتحاد الأوروبي بأنه تأسس للتلاعب بالولايات المتحدة حيث يستغل السوق الأمريكي دون تقديم تنازلات متكافئة، في خطوة تهدف لحماية الاقتصاد الأمريكي وتقليص العجز التجاري مع الاتحاد الأوروبي، الذي بلغ نحو 160 مليار دولار في عام 2023.
ولكن لم تتأخر بروكسل في الرد حيث أبدت استعدادها لفرض رسوم مضادة، إذ سرعان ما أعلنت المفوضية الأوروبية في 12 مارس 2025 عن فرض رسوم انتقامية بقيمة 26 مليار يورو (28 مليار دولار) على المنتجات الأمريكية، على أن يبدأ تطبيقها مطلع أبريل الجاري. وتشمل القائمة سلعًا تحمل رمزية كبيرة في الثقافة الأمريكية، مثل المشروبات الروحية، ودراجات هارلي ديفيدسون، وجينز ليفايز، في خطوة تهدف إلى ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على واشنطن.
في المقابل، لم يكتف ترمب بفرض رسوم على السيارات، بل هدد بزيادة الضرائب على المشروبات الروحية الأوروبية بنسبة 200% إذا مضى الاتحاد الأوروبي في فرض إجراءاته الانتقامية. وقال ترمب في تغريدة على منصته Truth Social: “حان الوقت لوقف الاستغلال الأوروبي لاقتصادنا. إذا كانوا يريدون حربًا تجارية، فنحن مستعدون للفوز بها”.
ولكن في خطوة للتهدئة، قررت المفوضية الأوروبية في 20 مارس 2025 تأجيل فرض رسومها الانتقامية على المنتجات الأمريكية حتى منتصف أبريل. ومع ذلك، لا يزال الاتحاد الأوروبي مستعدًا للرد حيث سيمضون قدماً في الرسوم الجمركية الانتقامية في حال لم يتوصلوا إلى حل.
أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن الاتحاد الأوروبي لا يسعى إلى التصعيد، لكنه لن يقف مكتوف الأيدي أمام قرارات تضر باقتصاده. وأضافت في مؤتمر صحفي ببروكسل: “نحن منفتحون على الحوار، لكن لن نقبل بسياسة الإملاءات”. مما يثير مخاوف واسعه حول التأثيرات المحتملة لهذه السياسات التجارية على الاقتصاد العالمي والقلق من اندلاع حرب تجارية شاملة تؤثر على سلاسل الإمداد العالمية.
كما قال ديفيد مالباس رئيس البنك الدولي (تفرض الرسوم الجمركية تحديات على التجارة العالمية، و يمكن ان تؤدي إلى تراجع النمو الاقتصادي على المدى الطويل. فقد حذر رايان سويت، كبير الاقتصاديين في Moody’s Analytics، من أن فرض هذه الرسوم سيؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، وسيدفع بالشركات إلى زيادة الأسعار أو تقليص الإنتاج، مما قد يرفع معدلات البطالة. ولكن بالطبع مع اقتراب موعد تنفيذ هذه الرسوم الجمركية المتبادلة يترقب المستثمرون والأسواق العالمية بحذر تداعيات التصعيد..
إذا تصاعدت الحرب التجارية بين أمريكا و أوروبا، فمن المتوقع أن تتسبب في تأثيرات واسعة النطاق على الاقتصاد العالمي، مع تأثيرات سلبية على الشركات والمستهلكين والأسواق المالية. في البداية، ستؤدي زيادة الرسوم الجمركية بين الجانبين إلى رفع تكلفة السلع المتبادلة، مما سيضر بالشركات والمستهلكين على حد سواء. فعلى سبيل المثال، الشركات الأمريكية التي تصدر إلى أوروبا قد تجد نفسها أمام تكاليف إنتاج أعلى نتيجة للرسوم الجمركية، وهو ما سيؤدي إلى رفع الأسعار على المنتجات الأمريكية مثل السيارات والإلكترونيات. في المقابل، الشركات الأوروبية التي تصدر إلى أمريكا، مثل مرسيدس بنز وبي إم دبليو، ستواجه تحديات مماثلة في زيادة التكاليف.
التأثيرات السلبية على الشركات لا تقتصر فقط على تكاليف الإنتاج، بل قد تشمل أيضًا إبطاء النمو الاقتصادي. فالتصعيد التجاري بين أكبر اقتصاديين في العالم قد يتسبب في انخفاض التجارة بين امريكا والاتحاد الاوروبي، مما يقلل من حجم التبادل التجاري ويزيد من حالة عدم اليقين التي قد تجعل الشركات مترددة في الاستثمار أو التوسع. ومع تزايد العوائق التجارية، قد تصبح الأسواق الأوروبية والأمريكية أقل جاذبية للشركات الكبرى، مما يدفعها إلى إعادة توجيه سلاسل التوريد نحو أسواق بديلة.
فعلى سبيل المثال، قد تصبح الدول الآسيوية وجهات تصدير جديدة للشركات الأمريكية والأوروبية التي تسعى لتجنب الرسوم الجمركية المتزايدة. هذا التحول قد يؤدي إلى إعادة تشكيل خارطة التجارة العالمية، مما يجبر العديد من الشركات على مراجعة استراتيجيتها التشغيلية و الاستثمارية لتفادي الخسائر.
على الصعيد المالي، يمكن أن تترتب على تصاعد الحرب التجارية تقلبات في أسواق المال. فقد تشهد أسواق الأسهم تراجعًا كبيرًا بسبب زيادة حالة عدم الاستقرار الاقتصادي، ما قد يؤدي إلى تقلبات حادة في أسعار العملات. على سبيل المثال، قد يعاني الدولار الأمريكي من تقلبات سعرية بسبب التوترات التجارية، مما يزيد من تعقيد المشهد الاستثماري بالنسبة للمستثمرين والشركات على حد سواء . كما أن حالة عدم اليقين قد تدفع الشركات إلى تأجيل الاستثمارات الكبرى، مما يؤثر على معدلات النمو الاقتصادي. وقد تجد البنوك نفسها مضطرة للتدخل عبر سياسات نقدية تحفيزية لمواجهة تداعيات النزاع التجاري، وهو ما قد يؤثر على أسعار الفائدة و معدلات التضخم .
من جانب آخر، ستتأثر الأسواق الاستهلاكية بشكل مباشر أيضًا. فمن المتوقع ان تصبح المنتجات الأوروبية الفاخرة مثل السيارات الراقية والأزياء أكثر تكلفة في الولايات المتحدة نتيجة الرسوم الجمركية المرتفعة، مما قد يقلل الطلب عليها . في حين ستواجه المنتجات الأمريكية مثل المعدات الإلكترونية والسلع الغذائية ارتفاعاً في الأسعار داخل الأسواق الأوروبية ، مما سيؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للمستهلكين هناك.
هذا الارتفاع في الأسعار قد يدفع بعض المستهلكين للبحث عن بدائل محلية او منتجات من دول لم تتأثر بالحرب التجارية، مما يعيد تشكيل أنماط الاستهلاك العالمية . كما أن هذا الوضع قد يؤدي إلى تباطؤ مبيعات الشركات متعددة الجنسيات ، التي تعتمد على الأسواق المفتوحة لتعزيز إيراداتها علاوة على ذلك، فإن التصعيد في الحرب التجارية قد تؤدي إلى تزايد الحمائية في الأسواق العالمية.
فإذا رأت بعض الدول الأخرى أن النزاع التجاري بين أمريكا وأوروبا يؤثر سلباً على اقتصاداتها ، قد تسارع إلى اتخاذ إجراءات مماثلة مثل فرض رسوم جمركية أو قيود على التجارة لحماية صناعاتها المحلية . هذا السيناريو قد يؤدي إلى اضطراب النظام التجاري الدولي ، مما يهدد ويؤدي مبدأ التجارة الحرة و يعرقل جهود تحقيق الاستقرار الاقتصادي على المستوى العالمي. و مع ازدياد التوترات قد نشهد موجة جديدة من الاتفاقيات التجارية الثنائية و الإقليمية التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على الأسواق المتضررة من النزاع .
من الناحية التاريخية لم تكن الحروب التجارية بلا ثمن . فالمشهد الحالي يعيد إلى الأذهان ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما وقع الرئيس الأميركي هربرت هوفر عام 1930 على قانون التعرفة الجمركية قانون “سموت-هاولي” الذي فرض تعريفات جمركية مرتفعة و ساهم في تفاقم الكساد الكبير، حينها ردت الدول الأخرى بالمثل، مما أدى الى انهيار التجارة الدولية بنسبة 65% بين عامي 1929و 1934 ، و أسفر عن إفلاس العديد من البنوك والشركات في الدول التي فرضت تعريفات انتقامية.
هذه السياسات عمّقت الأزمة الاقتصادية و أطالت أمدها ، مما أدى إلى واحدة من أسوأ الفترات الاقتصادية في التاريخ الحديث. واليوم، في ظل اقتصاد مترابط بشكل غير مسبوق، فإن أي تصعيد مماثل قد تكون له تداعيات أوسع، خاصة مع تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي. حتى الآن، لا تزال هناك فرص للمفاوضات.
ترمب معروف بأسلوبه التفاوضي القائم على رفع سقف التهديدات قبل التوصل إلى اتفاق، وقد يكون هذا السيناريو هو ما سيحدث في النهاية حيث سرعان ما تقوم القنوات الدبلوماسية في نزع فتيل هذه الأزمة من خلال التوصل إلى اتفاقيات جديدة تعيد التوازن إلى الأسواق . لكن في حال فشلت الدبلوماسية واستمر التصعيد ، فإن التداعيات لن تقتصر على أمريكا وأوروبا فقط ، بل ستمتد إلى الأسواق العالمية، التي تتأثر سريعًا بمثل هذه النزاعات. فمع تعقيد سلاسل التوريد و ارتفاع التكاليف التشغيلية، قد تواجه الشركات و المستهلكون على حد سواء فترة من عدم الاستقرار الاقتصادي، مما يضع الاقتصاد العالمي أمام اختبار صعب . في النهاية يبقى السؤال سيتعلم صناع القرار من دروس الماضي أم أننا على أعتاب أزمة اقتصادية جديدة؟.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال