الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهدت العديد من الدول أزمات عقارية كبرى كان لها تأثيرات اقتصادية واجتماعية عميقة. ومن أبرز هذه الأزمات أزمة الرهن العقاري الأمريكية التي اندلعت بين عامي 2007 و2008 بسبب انفجار فقاعة الإسكان الناتجة عن القروض عالية المخاطر وتوريق الديون العقارية، مما أدى إلى إفلاس بنوك كبرى مثل ليمان براذرز وإحداث أزمة مالية عالمية عُرفت بالركود العظيم، بالإضافة إلى انهيار أسواق العقارات.
في اليابان، وقعت أزمة عقارية كبيرة عام 1991 بسبب فقاعة عقارية ناتجة عن المضاربات والسياسات النقدية المتراخية، مما تسبب في انهيار الأسعار بنسبة تصل إلى 80% وركود اقتصادي طويل عُرف بـ“العقد الضائع“. أما إسبانيا، فقد عانت من أزمة عقارية بين 2008 و2013 بسبب فقاعة مدعومة بقروض سهلة وزيادة غير مدروسة في البناء، مما أدى إلى انهيار الأسعار وارتفاع معدلات البطالة وأزمة مصرفية تطلبت إنقاذاً مالياً من الاتحاد الأوروبي.
وفي الصين، بدأت أزمة عقارية عام 2021 بسبب ارتفاع ديون شركات التطوير العقاري مثل إيفرغراند وتشديد السلطات على القروض، مما أدى إلى حالات تخلف عن سداد ديون كبرى وتباطؤ اقتصادي مع مخاوف من تأثيرات عالمية. كما شهدت أيرلندا أزمة بين 2008 و2012 بسبب فقاعة عقارية ناتجة عن المضاربات والاقتراض المفرط، مما تسبب في انهيار الأسعار بنسبة 50% وأزمة مالية حادة تطلبت تدخلاً أوروبياً.
في دبي، وقعت أزمة عقارية بين 2008 و2010 بسبب تضخم الأسعار الناتج عن المضاربات والمشاريع الضخمة الممولة بالدين، مما أدى إلى انهيار الأسعار بنسبة 50% وإعادة هيكلة ديون كبرى مثل ديون شركة “نخيل“. وفي تايلاند، ارتبطت الأزمة العقارية عام 1997 بأزمة العملات الآسيوية، مما تسبب في انهيار السوق وإفلاس شركات التطوير وأزمة اقتصادية واسعة. أما تركيا، فتعاني منذ 2018 من أزمة عقارية بسبب انخفاض قيمة الليرة والسياسات النقدية المثيرة للجدل، مما أدى إلى ارتفاع غير مستدام في الأسعار وصعوبة تملك الشباب للسكن.
ومن الدروس المستفادة أن المضاربات غير المدروسة والقروض عالية المخاطر تؤدي إلى انفجار الفقاعات، مما يؤكد ضرورة الرقابة المالية لمنع التوسع غير الصحي في القطاع العقاري. كما تظهر هذه الأزمات مدى ترابط القطاع العقاري بالاقتصاد الكلي والحاجة إلى سياسات متوازنة لمنع التجاوزات، إذ أن الأزمات العقارية غالباً ما تتحول إلى أزمات اقتصادية شاملة.
وفي السنوات الأخيرة، شهدت العديد من الاقتصادات الناشئة والنامية تحولاً خطيراً يتمثل في التركيز المفرط على قطاع العقارات على حساب القطاعات الإنتاجية الأخرى، مما أدى إلى ظهور ما يشبه “المرض الهولندي“. يُستخدم هذا المصطلح لوصف الحالة التي يهيمن فيها قطاع واحد – عادةً ما يكون قطاعاً ريعياً مثل النفط أو العقار – على الاقتصاد، مما يؤدي إلى إضعاف القطاعات الأخرى مثل الصناعة والزراعة.
ظهر مصطلح “المرض الهولندي” في الستينيات بعد اكتشاف هولندا لاحتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، مما تسبب في ارتفاع قيمة العملة المحلية بسبب تدفق العائدات النقدية من القطاع الريعي، وتراجع الصادرات غير الريعية مثل الصناعة والزراعة بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، والاعتماد المفرط على قطاع واحد يجعل الاقتصاد عرضة للتقلبات العالمية. اليوم، نرى أن قطاع العقارات في بعض الدول يلعب دوراً مشابهاً، حيث يجذب الاستثمارات بعيداً عن القطاعات الإنتاجية، مما يخلق اختلالات اقتصادية.
عندما يتحول العقار إلى مصدر رئيسي للنمو الاقتصادي، تظهر عدة مؤشرات تشبه المرض الهولندي. يؤدي التوسع الكبير في القطاع العقاري إلى تضخم أسعار الأراضي والإسكان، مما يزيد من تكاليف المعيشة ويقلل القدرة التنافسية للقطاعات الأخرى. كما يجذب القطاع العقاري رؤوس الأموال بسبب أرباحه السريعة، مما يقلل الاستثمار في الصناعة والابتكار والتكنولوجيا. ويعتمد النمو على المضاربات العقارية بدلاً من الإنتاج الحقيقي، مما يخلق فقاعات قد تنفجر كما حدث في الأزمة المالية 2008. بالإضافة إلى ذلك، يصبح الاقتصاد معتمداً على قطاع واحد، مما يزيد من مخاطر الركود في حال تراجعه كما في أزمات الرهن العقاري.
لتحول العقار إلى مرض هولندي آثار متعددة على الصعيد الاجتماعي، فقد يؤدي ارتفاع أسعار الإسكان إلى تفاقم أزمة السكن ويوسع الفجوة بين الطبقات، مع زيادة الديون الأسرية بسبب الاعتماد على القروض العقارية. اقتصادياً، يضعف القاعدة الصناعية والتصنيعية، وترتفع البطالة في القطاعات غير العقارية، ويتعرض الاقتصاد لصدمات خارجية مثل انهيار سوق العقارات. مالياً، تزداد احتمالية حدوث فقاعات عقارية تهدد الاستقرار المالي، ويرتفع الدين العام إذا تدخلت الحكومة لإنقاذ القطاع.
لتجنب هذه الظاهرة، يمكن اتخاذ عدة إجراءات، يتضمن ذلك تنويع الاقتصاد عبر دعم الصناعة والزراعة والابتكار، وفرض ضرائب على المضاربات العقارية لتقليل التدفق غير الصحي نحو القطاع، وتشجيع الإسكان الاجتماعي لموازنة السوق وحماية الطبقات المتوسطة، بالإضافة إلى تنظيم القطاع المالي لمنع الإقراض المفرط في العقارات. يدخل في ذلك رفع الرسوم تدريجيا على الأراضي البيضاء غير المطورة ، وتدخل الدولة في زيادة المعروض العقاري مما يعيد التوازن لسوقي العرض والطلب.
يمثل تحول العقار إلى “مرض هولندي” تهديداً حقيقياً للاقتصادات التي تعتمد عليه بشكل مفرط، حيث يقوض التنمية المستدامة ويخلق اختلالات هيكلية. لذلك، يجب على الحكومات اعتماد سياسات متوازنة تشجع التنويع الاقتصادي وتحد من مخاطر الفقاعات العقارية قبل فوات الأوان.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال