الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم يزداد فيه الضجيج السياسي والاقتصادي يومًا بعد يوم، تأتي الصين لتُذكّرنا بأن القوة الحقيقية لا تحتاج إلى صوت مرتفع. فمنذ عام 2018، دخلت العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين منعطفًا حادًا، حين بدأت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات صينية بقيمة 34 مليار دولار. وردت بكين سريعًا برسوم مساوية على منتجات أمريكية رئيسية، أبرزها فول الصويا والسيارات، في أول مواجهة تجارية شاملة بين أكبر اقتصادين في العالم.
التصعيد استمر على مراحل. ففي النصف الثاني من 2018، فرضت واشنطن رسومًا إضافية بنسبة 10% على سلع صينية بقيمة 200 مليار دولار، رفعتها لاحقًا إلى 25% في مايو 2019، بينما وسّعت الصين ردودها لتشمل سلعًا أمريكية بقيمة 60 مليار دولار، مع فرض رسوم تراوحت بين 5% و25%، إلى جانب إجراءات غير جمركية مثل تشديد الضوابط الجمركية والتراخيص.
وفي يناير 2020، وُقّع اتفاق “المرحلة الأولى”، ما خفف التوتر مؤقتًا، لكنه لم يلغِ الرسوم، وظلت معظم السياسات العقابية سارية. بين عامي 2020 و2023، حافظ الطرفان على مستوى منخفض من التصعيد، إلى أن عادت إدارة الرئيس بايدن في مايو 2024 لتفعّل أدوات ضغط جديدة، فتمّت مضاعفة الرسوم الجمركية على منتجات صينية استراتيجية مثل الخلايا الشمسية، بطاريات الليثيوم، والمعدات الطبية، ضمن سياسة إعادة تمركز صناعي في الداخل الأمريكي.
لكن المنعطف الأخطر جاء في أبريل 2025، حين أعلنت إدارة ترامب – العائدة للبيت الأبيض – عن رسوم موحدة بنسبة 34% على جميع الواردات الصينية، اعتبارًا من 5 أبريل، تحت اسم لافت: “رسوم يوم التحرير”، في خطوة رمزية تنقل الرسوم الجمركية من أداة اقتصادية إلى شعار سياسي.
الرد الصيني كان استباقيًا ومدروسًا. ففي 4 أبريل – أي قبل دخول القرار الأمريكي حيّز التنفيذ – أعلنت بكين عن فرض رسوم انتقامية بنسبة 34% على جميع الواردات الأمريكية، تدخل حيز التنفيذ في 10 أبريل. ولم تكتفِ بالرسوم، بل أعلنت تعليقًا فوريًا لمشتريات المنتجات الزراعية الأمريكية الرئيسية، مثل فول الصويا والذرة، في ضربة مباشرة للولايات الزراعية الموالية سياسيًا للرئيس الأمريكي. كما أدرجت 27 شركة أمريكية على قائمتها السوداء التجارية، لتمنعها من المشاركة في العقود والمشتريات الحكومية، أو التصدير إلى السوق الصينية.
وجاء التصعيد الأمريكي الأكبر في 9 أبريل، حين أعلن الرئيس ترامب رفع الرسوم الجمركية على الصين إلى 125% بأثر فوري، كرد مباشر على “العدائية الصينية”، حسب تعبيره. وفي الوقت نفسه، أعلنت واشنطن خفض الرسوم بنسبة 10% على معظم الدول الأخرى لمدة 90 يومًا، في محاولة لعزل الصين تجاريًا، مع تأكيد أن هذه الإعفاءات لا تشمل الصين.
ثم جاء التوضيح في 10 أبريل من البيت الأبيض: إجمالي الرسوم الجمركية على الواردات الصينية بلغ الآن نحو 145%، تتكون من تعريفة رئيسية بنسبة 125%، مضافة إلى 20% مفروضة سابقًا منذ عام 2023 على خلفية اتهامات تتعلق بتورّط الصين في تجارة الفنتانيل.
ولم يتوقف التصعيد عند هذا الحد. فقد أعلنت واشنطن عن إغلاق ثغرة “de minimis”، التي كانت تسمح بدخول الطرود التي تقل قيمتها عن 800 دولار دون رسوم جمركية. واعتبارًا من 2 مايو 2025، ستخضع هذه الطرود لتعريفة جديدة بنسبة 30% على الأقل، مع زيادات تدريجية، ما يوجّه ضربة مباشرة لمنصات التجارة الإلكترونية الصينية مثل “شي إن” و”تيمو” وغيرها من المنصات.
بهذا، تحولت المواجهة من حرب تعريفات إلى صراع اقتصادي شامل تتداخل فيه الأدوات الجمركية والتنظيمية مع الرسائل الجيوسياسية. وبينما اختارت واشنطن التصعيد الصاخب والمباشر، جاءت استراتيجية الصين هادئة ولكن دقيقة: جمعت بين الردود المنظمة، والاستهداف الموجّه للقطاعات الحساسة، وبناء أدوات ردع اقتصادي لا تعتمد فقط على الأرقام، بل على التأثير العميق في المنظومة الأمريكية نفسها.
رغم أن حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين تجاوز 575 مليار دولار سنويًا (U.S. Census Bureau، 2024)، لم تتردد الإدارة الأمريكية في المضي قدمًا بهذا التصعيد، مما أدى إلى اضطرابات حادة في الأسواق العالمية، وانخفاض مؤشرات البورصة في آسيا وأوروبا، وتذبذب أسعار السلع الاستراتيجية مثل النفط والنحاس.
لكن في مقابل التصعيد الأمريكي المتسارع، حافظت الصين على هدوئها الاستراتيجي. أصدرت وزارة التجارة بيانًا مقتضبًا أكدت فيه أنها “ترفض الابتزاز الاقتصادي”، وأنها سترد بما يحفظ مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. لم يكن الرد فقط عبر الرسوم أو الحظر، بل في التحركات الصامتة والمستمرة التي تقوم بها بكين لإعادة تموضعها داخل النظام الاقتصادي العالمي.
فعلى مدار السنوات الأخيرة، لم تعد الكفاءة الإنتاجية أو الانفتاح على الأسواق العالمية هي المحددات الوحيدة للسياسات الاقتصادية. صعدت إلى السطح مفاهيم جديدة مثل الأمن الاقتصادي، السيادة الصناعية، والاستقلال في سلاسل التوريد. تبنّت الولايات المتحدة استراتيجية ثلاثية الأبعاد: إعادة توطين الصناعات الحيوية، تحفيز التصنيع المحلي، وبناء تكتلات تجارية وفق منطق الاصطفاف السياسي، لا المصلحة التجارية فقط.
وامتد هذا التحول إلى النظام القانوني الدولي، حيث عطّلت الولايات المتحدة هيئة الاستئناف في منظمة التجارة العالمية منذ ديسمبر 2019، مما أدى إلى شلل شبه تام في جهاز التحكيم التجاري العالمي. وقد بررت واشنطن هذا التعطيل بتجاوزات قانونية مزعومة من الهيئة، خصوصًا في القضايا المرتبطة بالصين، لكن المراقبين رأوا فيه محاولة لتفكيك قواعد اللعبة التي لم تعد واشنطن قادرة على التحكم بها.
في المجال الرقمي، كان للصين نصيب من الضغوط أيضًا. ففي مارس 2025، أصدر الرئيس ترامب قرارًا يُلزم شركة “بايت دانس” الصينية ببيع عمليات “تيك توك” داخل الولايات المتحدة، وإلا فسيتم حظرها نهائيًا. ورغم أن واشنطن برّرت القرار بـ”أسباب أمن قومي”، رأت بكين فيه اعتداءً اقتصاديًا صريحًا، ورفضت أي “بيع قسري”، مما جعل الأزمة تتحول إلى رمز لصراع أوسع على النفوذ الرقمي والتقني بين القوى الكبرى.
ورغم هذا الضغط الخارجي، واصلت الصين بناء استراتيجيتها بهدوء. بدلًا من التصريحات المرتفعة، ركّزت على التحركات العملية: بدأت بتوقيع اتفاقيات تجارية ثنائية بعملات محلية مع دول مثل روسيا، البرازيل، والهند، وساهم ذلك في خفض حصة الدولار في المدفوعات العالمية إلى أقل من 40% (BIS، 2024). كما فعّلت الصين نظام الدفع باليوان عبر الحدود (CIPS)، والذي تجاوزت معاملاته السنوية 12 تريليون يوان خلال عام 2024 (People’s Bank of China، 2024).
في أفريقيا، نمت التجارة الصينية–الأفريقية بنسبة 11% في 2024 (Ministry of Commerce of China)، مما يعكس تحولًا استراتيجيًا نحو تنويع الشركاء بعيدًا عن الأسواق الغربية. أما داخليًا، فارتفع الإنفاق الصيني على البحث والتطوير بنسبة 10.3%، ونما عدد الشركات التكنولوجية الناشئة بأكثر من 18%، بينما زادت براءات الاختراع بنسبة 7.2% عن العام السابق (OECD، SCMP، WIPO – 2024).
لكن الأهم من كل ذلك، هو التحول التدريجي في بنية النظام النقدي العالمي. ورغم أن رفع أسعار الفائدة الأمريكية منح الدولار دفعة مؤقتة، فإن العديد من الدول بدأت تفكّر جديًا في تقليل الاعتماد على الدولار، سواء عبر ربط العملة بسلة متنوعة، أو عبر اعتماد العملات الثنائية، أو حتى إنشاء مراكز صناعية ولوجستية في بلدان نامية كبديل للتوريد من الصين مباشرة.
هذا ما دفع العديد من الشركات اليابانية والكورية والأسترالية إلى نقل جزء من عملياتها إلى دول منخفضة التكاليف مثل مصر، وفيتنام، ودول أفريقية وآسيوية أخرى. هذا التوجه، الذي يمكن تسميته بـ”الاستعمار الإنتاجي الإيجابي”، يمنح هذه الدول فرصة نادرة للتحول إلى مراكز صناعية إقليمية لا تكتفي بالاستهلاك فقط، بل تخلق وظائف، وتعيد رسم خريطة الإمداد.
لكن مع كل هذه الفرص، تبقى المخاطر حاضرة: الدول النامية تواجه تقلبات تمويلية، ارتفاعًا في أسعار الغذاء والطاقة، وتراجعًا في قدرتها على التأثير في المؤسسات الدولية. ولهذا لم يعد كافيًا أن تنتظر هذه الدول التغيير، بل أصبح من الضروري بناء رؤية استراتيجية مستقلة تشمل: تعزيز استقلالية البنوك المركزية، توسيع استخدام العملات المحلية، تنويع الشراكات، وبناء بنية تحتية رقمية قوية.
في هذا السياق، لا ترفع الصين صوتها، لكنها ترفع سقف اللعبة. تمثل اليوم أكثر من 18% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (IMF، 2024)، وتطالب بإصلاح جوهري في المؤسسات الدولية، يُعيد توزيع القوة ويُعكس الواقع الجديد.
ما نعيشه اليوم لم يعد مجرد “حرب تعريفات”، بل إعادة كتابة للقواعد. قواعد السوق، والهيمنة، والسيادة الاقتصادية. وفي هذه اللحظة، تختار الصين الصمت التكتيكي لا الهدوء العاجز. لا تصرخ، لكنها تمضي… بهدوء الذين يعرفون أن المستقبل لا يُنتزع بالشعارات، بل بالبناء الصبور.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال