الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في خضم بيئة اقتصادية تتسم بتسارع التحولات وتنامي المخاطر، تبرز الحاجة الماسّة إلى نظام تأميني عصري يُشكل دعامة رئيسة للاستقرار المالي، ويُجسّد التزام الدولة بتطوير البنية التشريعية الداعمة للنمو والاستثمار. فالتأمين ليس مجرد نشاط اقتصادي فحسب، بل هو أداة استراتيجية لإدارة المخاطر، وصمام أمان لحماية الأفراد والممتلكات، وضمان استمرارية الأعمال. وفي ظل الطموحات الوطنية التي رسمتها رؤية السعودية 2030 لبناء قطاع مالي متنوع وفاعل، يأتي تطوير منظومة التأمين كخطوة محورية نحو تحقيق التوازن المالي، وتعزيز ثقة المستثمرين، ورفع جودة الحياة للمواطن والمقيم على حد سواء.
وانطلاقًا من هذا الإدراك الاستراتيجي، صدر قرار مجلس الوزراء الموقر رقم (85) وتاريخ 28/1/1445هـ، القاضي بإنشاء هيئة مستقلة باسم “هيئة التأمين” والموافقة على تنظيمها، في خطوة نوعية تهدف إلى إعادة هيكلة القطاع ورفع كفاءته التنظيمية والرقابية. وقد أُنيط بالهيئة دور محوري في مراجعة الأنظمة والتعليمات ذات الصلة، واقتراح التعديلات اللازمة، بما يُمكّنها من وضع إطار نظامي حديث يعالج أوجه القصور في التنظيم القائم، ويستوعب التحولات المتسارعة في الأسواق المحلية والدولية. ومن المؤمل أن تسهم هذه الهيئة، بصفتها الجهة المختصة بتنظيم القطاع والإشراف عليه، في بلورة مشروع نظام تأميني متكامل يواكب أفضل الممارسات العالمية، ويُمهّد لانخراط السوق السعودي بثقة في البيئة الاقتصادية العالمية، على أسس أكثر كفاءة واستدامة.
ورغم الجهود التنظيمية التي بُذلت على مدى السنوات الماضية لتأطير قطاع التأمين، إلا أن التجربة العملية كشفت عن تحديات بنيوية لا يمكن إغفالها، من أبرزها تداخل الصلاحيات الرقابية بين عدد من الجهات، وغياب الحماية الكافية لحملة الوثائق في بعض الحالات، خصوصًا في ما يتعلق بالإفصاح عن الحقوق والالتزامات، وسلاسة تسوية المطالبات، ووضوح الشروط التعاقدية. كما أن ضيق نطاق الشمول التأميني وتعقيد بعض الإجراءات الإدارية أثّرا سلبًا على ثقة المستفيدين بالسوق، وأضعفا من قدرته على أداء دوره التنموي بالشكل المأمول. هذه التحديات تؤكد أن التطوير التشريعي لم يعد خيارًا، بل ضرورة حتمية لإعادة بناء القطاع على أسس أكثر شفافية وعدالة وكفاءة.
ومن هذا المنطلق، فإن نظام مراقبة شركات التأمين التعاوني، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/32) بتاريخ 2/6/1424هـ، ورغم أهميته التاريخية في تنظيم مرحلة التأسيس، بات لا يواكب تطورات القطاع وحجمه المتنامي. فقد وُضع هذا النظام في سياق تنظيمي أولي يركّز على الترخيص والإشراف، دون أن يشمل منظومة متكاملة تعالج العلاقة التعاقدية وحقوق الأطراف وفض المنازعات. أما اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين على صدوره، ومع اتساع الأثر الاقتصادي والاجتماعي لقطاع التأمين، أضحى من الضروري تطوير إطار تشريعي أشمل، يوفّر أحكامًا موضوعية واضحة، تعزز الشفافية، وتُسهّل الوصول إلى العدالة، وتُمكّن القضاء من الفصل السريع والمنصف في النزاعات التأمينية، بما يعكس نضج السوق وتطلعاته المستقبلية.
وتزداد أهمية مشروع النظام الجديد في ظل التحديات الميدانية التي تواجه القطاع، والتي كشفت عنها بيانات حديثة أظهرت حجم الفجوة بين التطلعات والممارسة. فقد صرّح الرئيس التنفيذي لهيئة التأمين، المهندس ناجي التميمي، بأن الهيئة تلقت أكثر من 400 ألف شكوى ضد شركات التأمين خلال عام 2024، معظمها تتعلق بتأخّر الموافقات في التأمين الصحي، ما يعكس معاناة يومية يواجهها المستفيدون. ورغم وجود دراسة لإلغاء هذه الموافقات لتخفيف العبء عن المرضى، فإن المخاوف من الهدر المالي وارتفاع التكاليف تظل ماثلة. وفي الوقت الذي تمكنت فيه الهيئة من إغلاق أكثر من 99% من الشكاوى بنسبة رضا تجاوزت 95%، تبقى هذه الأرقام دلالة واضحة على الحاجة إلى إطار نظامي راسخ، يوفّر آلية محايدة وشفافة لفض النزاعات التأمينية، ويُرسّخ العدالة ويُعيد بناء الثقة بين أطراف العلاقة التأمينية بعيدًا عن التدخلات الإدارية المتكررة.
وفي هذا السياق، بدأت الهيئة باتخاذ خطوات عملية لرفع مستوى الشفافية والمساءلة في القطاع، من خلال التوجه نحو نشر مؤشرات أداء دورية لقياس جودة الخدمات المقدمة من شركات التأمين، مثل عدد الشكاوى مقابل عدد المستفيدين، ومتوسط أوقات تسوية المطالبات، ومستوى رضا العملاء. وتُعد هذه المبادرات خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، إذ تسهم في تسليط الضوء على مكامن القصور، وتمنح الجهات الرقابية والمستفيدين أدوات موضوعية لتقييم الأداء. إلا أن فعالية هذه الخطوات تظل مرهونة بوجود إطار نظامي داعم، يعالج الأسباب الجذرية للاختلالات البنيوية، وليس فقط نتائجها الظاهرة، ويُوفّر منظومة متكاملة تُسند المؤشرات بقيود قانونية وأدوات رقابية تضمن الاستجابة الفعلية لها.
ومن المتوقع أن يتضمن مشروع النظام عددًا من المحاور الجوهرية التي تُعيد رسم ملامح العلاقة بين أطراف التأمين، من أبرزها: تعزيز مبادئ الحوكمة الرشيدة في شركات التأمين، وتنظيم العلاقة التعاقدية بشكل يضمن وضوح الشروط والاستثناءات، وتحقيق التوازن في الالتزامات، وتطوير آليات تسوية المطالبات والشكاوى بما يضمن الكفاءة والعدالة. كما يُنتظر أن يُمكّن الهيئة من أداء دور رقابي أكثر فاعلية، عبر تبني أدوات رقابة استباقية، وتفعيل تقنيات الرقمنة الإشرافية (RegTech)، بما ينسجم مع التجارب المتقدمة لهيئات رقابية عالمية مثل هيئة الخدمات المالية البريطانية، وهيئة الرقابة المالية في سنغافورة، وهو ما يُعد نقلة نوعية في أدوات الضبط التنظيمي ويُعزز من مرونة وكفاءة الإشراف.
ويُعد التحول الرقمي في قطاع التأمين فرصة استراتيجية لتسريع وتيرة التطوير، وتحقيق كفاءة تشغيلية أعلى، وتقديم تجربة أكثر سلاسة ومرونة للمستفيدين. ومن المهم أن يُولي النظام الجديد اهتمامًا خاصًا بدعم التقنية المالية التأمينية (InsurTech)، بوصفها محركًا رئيسًا للابتكار وتحسين الخدمة. فهذه التقنيات تتيح تصميم منتجات تأمينية مخصصة وفق احتياجات العملاء، وتُسهم في تسريع إجراءات الاكتتاب وتسوية المطالبات، واكتشاف حالات الاحتيال عبر توظيف الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة. كما أن تحفيز بيئة الابتكار، لاسيما عبر دعم الشركات الناشئة، يُعزز من تنافسية السوق، ويُسهم في توطين المعرفة التقنية، ويُحقق أحد مستهدفات التحول الرقمي ضمن رؤية السعودية 2030، عبر بناء بنية تحتية رقمية داعمة واقتصاد معرفي مستدام.
وفي المقابل، يُؤمل أن يُعالج النظام الجديد جوانب القصور في الشمول التأميني، من خلال توسيع نطاق التغطيات لتشمل الفئات الأقل استفادة، مثل العمالة المنزلية، والعاملين في القطاع غير الرسمي، والمنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر، بما يعزز العدالة التأمينية ويُرسّخ مبدأ الحماية للجميع. كما يُتوقع أن تمتد مظلة التغطية لتشمل مجالات نوعية لم تحظَ بالاهتمام الكافي، مثل التأمين ضد الكوارث الطبيعية، والمخاطر البيئية، والمهنية، وهو ما يُمثل استجابة تشريعية واقعية لتزايد حجم وتعقيد المخاطر في البيئة الاقتصادية والاجتماعية، ويُسهم في بناء سوق تأميني أكثر شمولاً ومرونة واستدامة.
علاوة على ذلك، يُتوقع أن يُسهم مشروع النظام الجديد في تهيئة بيئة استثمارية أكثر جاذبية، من خلال رفع مستوى الشفافية وتبسيط الإجراءات التنظيمية، بما يعزز من ثقة المستثمرين المحليين والدوليين، ويدفع نحو تأسيس شركات تأمين وإعادة تأمين جديدة. هذا التوجه لا يقتصر على جذب رؤوس الأموال فحسب، بل يُسهم أيضًا في تنمية القدرات الوطنية الفنية والبشرية، وتعزيز التنافسية، وتحقيق التوازن بين متطلبات السوق المحلي ومقومات التكامل مع الأسواق العالمية. وبذلك يُصبح قطاع التأمين رافدًا مهمًا للنمو الاقتصادي، وركيزة لتعزيز الاستقرار المالي، ووسيلة استراتيجية لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030.
ولا يمكن الحديث عن تطوير نظام التأمين دون الاستفادة من التجارب الدولية الرائدة التي حققت نقلات نوعية في هذا المجال. ففي كندا، شُيّدت منظومة متقدمة لحماية المستهلك من خلال هيئة مستقلة تفصل في شكاوى حملة الوثائق، مع إلزام الشركات بالإفصاح الشامل والواضح عن الشروط والاستثناءات. وفي المملكة المتحدة، طُبّق تأمين إلزامي على بعض الأنشطة المهنية ذات المخاطر العالية، مما ساهم في توسيع قاعدة التغطية التأمينية ورفع انضباط السوق. كما تبنّت دول مثل الإمارات وسنغافورة تحديثًا شاملًا لتشريعاتها التأمينية، مع التركيز على رقمنة المطالبات، وتسريع الإجراءات، وتعزيز المنافسة، وبناء منظومات متكاملة لحماية المستفيدين. وتشكل هذه النماذج مصدر إلهام لتطوير الإطارين التنظيمي والتشريعي في المملكة، خصوصًا في ما يتعلق بالفصل المؤسسي بين الجهات الرقابية وآليات تسوية المنازعات، بما يُعزز الشفافية، ويُكرّس العدالة، ويرفع من كفاءة السوق وموثوقيته.
وفي ضوء التحديات المرتبطة بالمنازعات التأمينية، فإن من أبرز ما ينبغي أن يتضمنه مشروع النظام الجديد هو إنشاء آلية مستقلة ومحايدة للفصل في هذه النزاعات، تُرسّخ الفصل المؤسسي بين الدور الرقابي ودور تسوية الخلافات. فغياب هذا الفصل قد يضعف الثقة في عدالة الإجراءات ويُربك العلاقة بين الأطراف. ويمكن أن تتجسد هذه الآلية في مركز متخصص للتحكيم أو التسوية، يعمل بتكامل مع الهيئة، ويستند إلى معايير قانونية ومهنية واضحة، تضمن الحياد، وتُسرّع عملية البت، وتُعزز من مصداقية القطاع، وتُخفف من الضغط على القضاء العام، بما يُكرّس مبدأ العدالة الناجزة ويُعيد بناء الثقة في المنظومة التأمينية.
ولضمان نجاح مشروع النظام وتحقيق الأثر المنشود منه، تبرز الحاجة إلى تبنّي حزمة من التوصيات التطويرية المتكاملة، في مقدمتها: نشر مؤشرات أداء دورية وموثوقة تُظهر التزام شركات التأمين بجودة الخدمة وسرعة تسوية المطالبات، وتُشكّل أداة فعالة للرقابة والمساءلة. كما أن تأهيل الكفاءات الوطنية المتخصصة في مجالات التأمين والحوكمة والرقابة يشكّل ركيزة أساسية لبناء منظومة مهنية مستدامة.
ومن الضروري أيضًا تحفيز الابتكار في المنتجات التأمينية بما يلبي احتياجات السوق المتغيرة، وتسريع وتيرة التحول الرقمي من خلال تطوير البنية التحتية الإلكترونية وتعزيز التكامل بين الجهات ذات العلاقة، بما يضمن الاستفادة القصوى من التكنولوجيا الحديثة في تحسين الكفاءة وتقليل التكاليف وتعزيز تجربة المستفيدين.
ويجدر في هذا السياق التذكير بما ورد في الفقرة (رابعًا) من قرار مجلس الوزراء المشار إليه، والتي نصت على استمرار العمل باللوائح والتعليمات القائمة إلى حين استكمال الإجراءات النظامية لمشروع نظام التأمين الجديد. ورغم أن هذا الترتيب الانتقالي يُعد منطقيًا من الناحية القانونية لضمان استمرارية التنظيم، إلا أن امتداده الزمني دون أفق واضح قد يُبطئ من وتيرة الإصلاحات الضرورية، ويُبقي السوق تحت مظلة تنظيمية جزئية لا تعكس تطلعات المرحلة ولا تتواءم مع حجم القطاع وتحدياته المتنامية. وهو ما يستدعي تسريع وتيرة استكمال المشروع وإقراره، لضمان انتقال فعّال ومنضبط نحو الإطار التشريعي الجديد.
ختاماً، إن مشروع نظام التأمين الجديد، وعلى الرغم من كونه لا يزال في طور الإعداد، يُمثّل خطوة تشريعية مفصلية نحو إعادة هيكلة القطاع على أسس أكثر كفاءة وعدالة واستدامة. فهو لا يستهدف معالجة الإشكالات التنظيمية فحسب، بل يُجسّد رؤية طموحة لتفعيل دور التأمين كدعامة رئيسة في الاقتصاد الوطني، ومُمكّن فعّال لجودة الحياة، ومحفّز جاذب للاستثمار.
وتحقيق هذه الأهداف يستدعي شراكة مؤسسية فاعلة بين الجهات التنظيمية، وشركات التأمين، والمستفيدين، إضافة إلى إشراك الرأي العام في مراحل الإعداد عبر منصة استطلاع التابعة للمركز الوطني للتنافسية، بما يضمن نضج التشريع وواقعيته. ومع صدور النظام وتنفيذه ضمن إطار تكاملي يعكس إرادة تطويرية حقيقية، لن يُسهم في تعزيز قطاع التأمين فحسب، بل سيُرسّخ أسس اقتصاد أكثر مرونة وتوازنًا واستدامة، يضع الإنسان واحتياجاته في صميم العملية التنموية، ويواكب تطلعات المملكة نحو المستقبل بثقة وثبات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال