بعد استعراض المشهد العالمي للحوسبة الكمية في الجزء السابق من المقال، نتجه الآن إلى السوق المالية السعودية (تداول) ونسأل: كيف يمكن أن تؤثر الحوسبة الكمية على نمو هذا السوق وتطوير أدواته وكفاءة اتخاذ القرارات الاستثمارية فيه؟ الحوسبة الكمية (Quantum Computing) تغيير جذري في طريقة معالجة المعلومات. إنها تقنية ناشئة متعددة التخصصات تستخدم مبادئ فيزياء الكم لحل مشاكل معقدة بسرعة هائلة تتخطى قدرات الحواسيب التقليدية. وحسب مجموعة بوسطن الاستشارية، قد تُولد الحوسبة الكمية قيمة اقتصادية عالمية تقارب 850 مليار دولار بحلول 2040، منها نحو 90 إلى 170 مليار دولار في قطاعات البنية التحتية والتطبيقات الكمية. هذه الأرقام الضخمة توحي بأن السباق نحو تبني التقنيات الكمية قد بدأ بالفعل على مستوى العالم. ولكن أين موقع سوق المال السعودي من هذا السباق؟ وهل سيكون تداول السبّاق في تبني الثورة الكمية إقليمياً، أم تنتظر نضوج التقنية أكثر قبل الدمج؟
لنبدأ بتخيّل مشهدٍ مستقبلي قريب في الرياض: مدير استثمار في أحد الصناديق السعودية يستند بمكتبه الفاخر في مركز مالي حديث، يطرح سؤالاً على حاسوب كمّي يعمل عبر السحابة: “ما هي أفضل محفظة استثمارية يمكن تكوينها اليوم لتحقيق عوائد مستقرة في السنوات الخمس القادمة مع التقيد بأنظمة السوق السعودي؟” خلال ثوانٍ، يعالج الحاسوب الكمي ملايين الاحتمالات والسيناريوهات المعقدة في وقت متزامن، ليقدم توصيات مدعومة بحسابات لم يكن بالإمكان القيام بها بنفس الكفاءة من قبل. هذا ليس خيالًا علميًا بعيد المنال، بل صورة (ممكنة) تعكس كيف قد تغيّر الحوسبة الكمية قواعد اللعبة في سوق تداول السعودي قريبًا.
فرص الحوسبة الكمية في تطوير تداول
سوق الأسهم السعودية هو الأكبر في المنطقة العربية، ويتمتع بسيولة وعمق متزايدين مع انفتاحه على المستثمرين الأجانب وتنويع الأدوات المدرجة فيه. ومع هذا التوسع، تأتي تحديات ضخمة في تحليل البيانات واتخاذ القرارات المثلى. هنا تبرز الحوسبة الكمية كحل مستقبلي يمكن أن يدعم نمو السوق ويطوّر أدواته بشكل غير مسبوق. فيما يلي أهم المجالات في تداول التي قد تستفيد من قدرات الحوسبة الكمية:
- تحليل المحافظ الاستثمارية وتحسينها: تواجه صناديق الاستثمار ومدراء الأصول في السعودية تحديات في اختيار التوليفة المثلى للمحفظة لتحقيق أعلى عائد بأقل مخاطر ضمن ضوابط الشريعة والسيولة. يُعرف هذا بمشكلة تحسين المحافظ، وهي تتطلب معالجة كم هائل من الاحتمالات (خصوصًا مع زيادة عدد الأسهم والأصول). تمتلك الخوارزميات الكمية القدرة على إيجاد مزيج الاستثمارات الأمثل بشكل أكثر كفاءة من الخوارزميات التقليدية على سبيل المثال، يمكن لحاسوب كمّي أن يُوازن بين العوائد والمخاطر لعشرات الأصول في وقت واحد، آخذاً بالاعتبار سيناريوهات متعددة لحركة السوق دفعة واحدة. النتيجة هي محافظ مُحسّنة كمياً تحقق الاستفادة القصوى من الفرص المتاحة وتقلل التقلبات قدر الإمكان. هذا التطوير في أدوات إدارة الاستثمار سيمنح المؤسسات المالية السعودية ميزة تنافسية عالمية، ويتيح حلولاً مخصصة للعملاء المحليين تتوافق مع تطلعاتهم.
- تقييم المخاطر واتخاذ القرارات الاستثمارية: في عالم المال، يعد قياس المخاطر بدقة وسرعة مفتاحًا لحماية المحافظ واتخاذ قرارات رشيدة. تخيّل بنوكًا سعودية أو شركات وساطة تجري مئات الآلاف من عمليات حساب القيمة المعرضة للخطر (VaR) ونماذج الإجهاد المالي في زمن شبه لحظي بفضل الحوسبة الكمية. تشير دراسات حديثة إلى أن الخوارزميات الكمية قد تُحدث ثورة في حساب VaR، مما يسمح للمؤسسات المالية بمعالجة مجموعات بيانات ضخمة ونماذج معقدة في الوقت الفعلي. هذا يعني تقييمًا أدق وأسرع للمخاطر، وقدرة أكبر على التنبؤ بالاضطرابات قبل وقوعها، ووضع استراتيجيات وقائية قوية. فمع تحليلات فورية عالية الدقة، يستطيع صانع القرار في تداول (سواء كان مستثمرًا فرديًا أو صندوقًا مؤسسيًا) أن يتفاعل بسرعة مع تقلبات السوق، ويتخذ قرارًا مدروسًا بدلًا من ردّة فعل متأخرة. في المحصلة، كفاءة القرار الاستثماري سترتفع بشكل ملحوظ مع تبني التقنيات الكمية، مما يؤدي إلى سوق أكثر استقرارًا وثقةً للمستثمرين.
- تسويات أسرع وأكثر كفاءة للمعاملات: خلف الكواليس، تعتمد أسواق المال على عمليات مقاصة وتسوية للتداولات لضمان نقل الملكية والأموال بسلاسة بين الأطراف. هذه العمليات تتضمن حلولًا لمسائل معقدة في الجدولة والتوفيق بين آلاف المعاملات في اليوم. أبحاث حديثة في سنغافورة وأماكن أخرى أظهرت أن الخوارزميات الكمية تستطيع إيجاد طرق مثلى لتسوية عدد هائل من الصفقات بوقت أقل وبكفاءة أعلى. على سبيل المثال، تمكن فريق بحثي من حل مشكلة تضم 128 صفقة و41 طرفًا باستخدام حاسوب كمّي صغير نسبيًا (19 كيوبت فقط) وهي مهمة كان من الصعب على الأنظمة التقليدية معالجتها بالسرعة المطلوبة. بالنسبة لتداول، هذا قد يعني مستقبلاً تقليص وقت التسوية بشكل كبير (وربما آنياً لبعض الأدوات)، مما يقلل المخاطر التشغيلية ويحرر السيولة بشكل أسرع للمشاركين في السوق. ليس ذلك فحسب، بل إن الأمان في عملية التسوية يمكن أن يتعزز عبر تقنيات كمومية أخرى مثل التشفير الكمّي وتوزيع المفاتيح الكمومية، مما يضمن أن تظل البيانات المالية الحساسة محمية ضد الاختراقات المستقبلية حتى مع ظهور الحواسيب الكمية القادرة على كسر التشفير التقليدي.
- اكتشاف الأنماط والفرص الخفية في السوق: أحد أسرار تحقيق الأرباح في أسواق الأسهم هو القدرة على التنقيب عن أنماط خفية في حركة الأسعار وأحجام التداول وارتباط الأصول. اليوم تعتمد شركات التداول الخوارزمي وصناديق التحوّط على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لكشف هذه الأنماط، لكن هذه التقنيات محدودة بقدرات الحواسيب التقليدية وزمن المعالجة. الحوسبة الكمية تعد بفتح آفاق جديدة هنا عبر نماذج تعلم آلي كمية قادرة على معالجة بيانات أكبر بأبعاد أكثر وتعقيد أعلى دفعة واحدة. هذا يعني أنه يمكن، على سبيل المثال، لغرفة مراقبة السوق في هيئة السوق المالية السعودية أو إدارة رقابية في تداول، استخدام خوارزميات كمية لمسح آلاف أوامر التداول في الثانية، واكتشاف إشارات مبكرة على تداولات غير اعتيادية قد تشير إلى مضاربات عالية أو تلاعب محتمل. كذلك يمكن للمستثمرين اكتشاف أنماط ترابط جديدة بين الأسهم أو القطاعات (قد لا يكتشفها الذكاء الاصطناعي التقليدي) وبالتالي استباق الفرص الاستثمارية قبل الآخرين. ببساطة، ستكون القدرة على استكشاف كمّي للبيانات بمثابة رادار متقدم يستشعر التقلبات والفرص في سوق الأسهم السعودية بدقة محسّنة، مما يفيد المختص وغير المختص في اتخاذ قرارات مبنية على رؤية أشمل للسوق.
- أدوات مالية جديدة وابتكار في المنتجات: مع قوة الحوسبة الكمية، قد نشهد في تداول ظهور أدوات مالية مبتكرة. على سبيل المثال، مشتقات معقدة تعتمد على حاسوب كمّي لتسعيرها آنياً، أو مؤشرات كمّية تتنبأ بحالة السوق بناءً على محاكاة ملايين الاحتمالات الاقتصادية. حتى في جانب الخدمات للعملاء، يمكن للبنوك استخدام الخوارزميات الكمومية لتقييم الجدارة الائتمانية للعملاء والشركات بشكل أكثر شمولية ودقة من خلال تحليل كمّ هائل من العوامل المالية والاقتصادية في وقت واحد. هذه الابتكارات ستجعل السوق السعودي بيئة أكثر ديناميكية وحداثة، تُجذب شركات التقنية المالية (FinTech) العالمية والإقليمية للاستثمار فيها، وتعزز مكانة المملكة كمركز مالي متطور يدمج أحدث التقنيات.
تحديات دمج الحوسبة الكمية في السوق السعودية
بطبيعة الحال، دمج تقنية ثورية كالحوسبة الكمية في سوق مالية قائمة لن يكون أمرًا خاليًا من العقبات. هناك تحديات اقتصادية وعلمية ولوجستية يجب معالجتها لضمان نجاح هذا التحول، خصوصًا في سياق السوق السعودية. فيما يلي أبرز تلك التحديات وكيف يمكن مواجهتها:
- نقص الكفاءات الوطنية المتخصصة: تعتبر المواهب البشرية الركيزة الأهم لنجاح أي تبنٍ لتقنية جديدة. في الوقت الحالي، عدد المتخصصين في الحوسبة الكمية بالمملكة محدود، فهذه مجال حديث نسبيًا عالميًا. سد هذه الفجوة يتطلب استثمارًا في التعليم والتدريب. والخبر الجيد أن السعودية بدأت بالفعل خطوات في هذا الاتجاه؛ فعدة جامعات ومراكز أبحاث محلية أنشأت برامج وتركيزات في علوم الكم. على سبيل المثال، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن تقدم برامج بحثية ودورات في الحوسبة الكمية والاتصالات الآمنة. أيضًا تم إطلاق مبادرات مثل معسكرات تدريب أكاديمية طويق والهاكاثونات الكمومية لجذب المهتمين وتطوير مهاراتهم. هذه الجهود تمثل بداية واعدة لبناء جيل من الخبراء السعوديين القادرين على قيادة المشاريع الكمية. لكن لا بد من تسريع وتوسيع هذه المبادرات على نطاق أوسع وبشكل مستمر. ربما نرى في القريب العاجل تعاونًا بين الجهات الأكاديمية والشركات المالية لتقديم منح دراسية أو برامج ابتعاث في تخصصات الكم، لضمان توفر كوادر وطنية كافية عندما تبدأ التقنية بالاندماج فعليًا في أعمال تداول.
- البنية التحتية التقنية والتجهيزات: تشغيل الخوارزميات الكمية يتطلب إما الوصول إلى حواسيب كمية حقيقية أو على الأقل محاكيات كمية عالية الأداء. هذه ليست حواسيب يمكن وضعها في أي غرفة سيرفر عادية؛ فهي أجهزة حساسة للغاية تحتاج إلى تبريد شديد (درجة حرارة مقاربة للصفر المطلق) وظروف تشغيل خاصة. حاليًا، لا تمتلك المملكة حاسوبًا كمّيًا تشغيليًا ضمن حدودها بعد، لكن هناك تحركات لردم هذه الفجوة. ففي عام 2024، أعلنت أرامكو شراكة مع شركة Pasqal الفرنسية لنشر أول حاسوب كمّي في السعودية ، كما تعاونت أرامكو مع IBM لإنشاء مركز ابتكار يدرس تطبيقات الحوسبة الكمية في قطاعات مثل الطاقة وغيرها). هذه الشراكات الدولية تسعى إلى جلب التقنية إلى أرض الوطن وبناء الخبرة التشغيلية. وربما نشهد إنشاء مركز حوسبة كمّي وطني أو ما أطلق عليه تقرير حديث “مصنع كمومي” (Quantum Foundry) يكون بمثابة حاضنة لتطوير وتجريب التقنيات الكمية وتوفيرها للجهات الصناعية والمالية. كذلك، إلى أن تتوفر بنية تحتية محلية، تستطيع الجهات في سوق المال السعودي الاستفادة من خدمات الحوسبة الكمية السحابية التي تقدمها شركات مثل IBM وGoogle وغيرها للوصول إلى الحواسيب الكمية عن بعد. باختصار، التحدي هنا يكمن في تهيئة البيئة التقنية – من مراكز بيانات متقدمة وربط شبكي عالي الأمان – لاستيعاب متطلبات التشغيل الكمي. هذه استثمارات قد تكون مكلفة، لكنها أساسية لضمان جاهزية السوق للاستفادة الكاملة عندما تصبح التقنيات الكمية أكثر موثوقية.
- الإطار التشريعي والتنظيمي: التقنية الجديدة دائمًا ما تتطلب مواكبة تشريعية لضمان استخدامها بشكل آمن وعادل. هيئة السوق المالية السعودية (CMA) والبنك المركزي السعودي ستكون لهما أدوار مهمة في وضع ضوابط لاستخدام الحوسبة الكمية في الخدمات المالية. مثلاً، قد تحتاج اللوائح إلى تحديث لتعالج مخاطر جديدة قد تنشأ مع دخول الحوسبة الكمية. أحد هذه المخاطر يتعلق بـأمن المعلومات؛ فكما ذكرنا، الحواسيب الكمية القوية قد تتمكن في المستقبل من كسر أنظمة التشفير الحالية التي تحمي البيانات المالية والمعاملات. لذا على المنظمين التحرك مبكرًا نحو اعتماد معايير التشفير الآمن كمّيًا (Quantum-safe encryption) في البنوك وشبكات التداول، للحفاظ على السرية والثقة. كذلك، ينبغي النظر في مسألة عدالة السوق: إذا بدأت بعض المؤسسات باستخدام حواسيب كمية للحصول على ميزة سرعة أو تحليل تفوق الآخرين، هل سيخلق هذا تفاوتًا غير عادل؟ ربما تستحدث CMA قواعد إفصاح تلزم أي جهة تستخدم خوارزميات كمية بالإفصاح عن ذلك لضمان الشفافية. أيضًا، يجب مراجعة أنظمة التداول الخوارزمي وسياساته – الموجودة حاليًا – لتشمل ما إذا كان هناك اعتبارات خاصة عندما تكون الخوارزميات كمية. بعبارة أخرى، على الإطار التشريعي أن يكون مرنًا واستباقيًا؛ يستوعب الفوائد (كزيادة الكفاءة والسيولة) ويحد من المخاطر (كالتلاعب أو الاختراق). ولعل المملكة ضمن سعيها في رؤية 2030 للتحول الرقمي، تخصص فرق عمل قانونية وتقنية لمتابعة تطورات التشريع الدولي في هذا المجال والاستفادة منها.
- التكلفة والعائد على الاستثمار: إدخال الحوسبة الكمية سيتطلب ميزانيات ضخمة سواء في شراء الأجهزة أو تدريب الموظفين أو تطوير البرمجيات الكمية المخصصة. بالنسبة للشركات والمؤسسات المالية في السعودية، سيكون هناك تساؤل مشروع: هل العائد المتوقع يبرر هذه التكلفة الآن أم ننتظر قليلاً؟ الحقيقة أن التقنية الكمية لا تزال في مراحلها المبكرة (مرحلة NISQ – حواسيب كمومية غير مستقرة تمامًا بعد). حتى أن بعض الخبراء، مثل الرئيس التنفيذي لشركة Nvidia السيد جنسن هوانج، صرّح بأننا قد نحتاج لنحو 15 عامًا قبل أن تتوفر أجهزة كمومية متخصصة في الأسواق وتصبح التطبيقات واضحة الملامح. هذا التصريح يشير إلى أن الاستثمار الآن قد لا يؤتي ثماره فورًا، بل هو رهان استراتيجي طويل المدى. بالتالي، ربما تتبنى المؤسسات نهجًا متدرجًا: مشاريع تجريبية صغيرة لاكتساب المعرفة الآن، مع إبقاء العين على التطورات لتوسيع الاستثمار حين تنضج التقنية أكثر. أيضًا قد تتعاون المؤسسات لتقاسم التكلفة والمخاطر؛ كأن نرى كونسورتيوم يضم تداول وعدة بنوك وشركات كبيرة لتأسيس منصة حوسبة كمية مشتركة، بدعم ربما من صندوق الاستثمارات العامة، لتوزيع التكلفة والفائدة. الجدير بالذكر أن الحكومة السعودية مدركة لأهمية الاستثمار المبكر في التقنيات المستقبلية رغم التحديات، وهذا يتضح من مبادرات الابتكار العديدة ضمن رؤية 2030. لذا من المتوقع توفير حوافز وتشجيع للمؤسسات التي تجرّب وتتبنى الحوسبة الكمية مبكرًا، تمامًا كما حدث مع تقنيات الذكاء الاصطناعي سابقًا، لضمان أن لا تفوت المملكة موجة التقنية القادمة.
الواقع والآفاق: هل نحن مستعدون للسباق الكمّي؟
في الخلاصة، يمكن القول إن الحوسبة الكمية تحمل وعودًا كبيرة لسوق المال السعودي، من تعزيز الكفاءة إلى ابتكار أدوات غير مسبوقة. التأثير المحتمل يمتد من غرف التداول إلى مراكز اتخاذ القرار وحتى مكاتب الرقابة، الكل سيلمس فرقًا عندما تدخل هذه التقنية حيز التنفيذ. وفي الوقت نفسه، هناك إدراك ووعي محلي بأن السبق في هذا المجال ليس مجرد ترف تقني، بل ضرورة استراتيجية لضمان مواكبة أسواق العالم المتقدم. المملكة، عبر رؤية 2030 وبرامجها المتعددة، تبعث برسالة واضحة: سنكون جزءًا من الثورة التقنية القادمة، ولن نكتفي بدور المتفرج. ولعل خطوات إنشاء مركز الثورة الصناعية الرابعة (C4IR) وإطلاق مشروع الاقتصاد الكمّي الوطني هي دليل على هذه النوايا. صحيح أننا ما زلنا في بدايات الطريق، فالأبحاث تتواصل عالميًا لتحقيق اختراقات كمومية جديدة، والشركات الكبرى تتنافس على بناء حواسيب أكثر قوة واستقرارًا. لكن ما يبعث على التفاؤل أن السعودية لا تبدأ من الصفر: هناك خطط واستثمارات مبدئية، هناك وعي لدى القيادات المالية بأهمية الموضوع، وهناك شغف شبابي وتقني ملموس لتعلّم كل ما هو جديد. التحديات حقيقية ولا يمكن إنكارها، لكن بالتخطيط السليم والتعاون بين الجهات المختلفة (حكومية، أكاديمية، وخاصة)، يمكن تحويل هذه التحديات إلى قصص نجاح.
في نهاية المطاف، قد لا يكون السؤال “من يسبق من؟” هو الأدق، فالأجدر أن نسأل: كيف نجعل الحوسبة الكمية وتداول يسيران جنبًا إلى جنب نحو مستقبل مزدهر؟ التقنية وحدها لا تكفي، والسوق بغير تبنّي أحدث الأدوات سيفقد زخمه. السباق الحقيقي هو سباق مع الزمن لتحضير البنية التحتية وبناء المهارات قبل أن تصبح الحوسبة الكمية معيارًا أساسيًا في الأسواق العالمية. وإذا حافظت المملكة على زخمها الحالي في الاستعداد والاستثمار الاستباقي، فربما نجد أن أسواق المال السعودية ربما تقود المنطقة في هذا المضمار، لتغدو نموذجًا يُحتذى في كيفية مزج العلم بالاقتصاد ضمن سردية نجاح واحدة. عندها سنشهد فصلًا جديدًا حيث تتكامل عبقرية البشر مع عبقرية الآلة الكمومية لاتخاذ قرارات ثاقبة تخلق قيمة لجميع الأطراف في السوق.