الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع اقتراب رؤية السعودية 2030 من إتمام عقدها الأول، تتجلى ملامح مشهد اقتصادي واجتماعي جديد، يروي قصة تحول تاريخي يعيد رسم ملامح الدولة الحديثة. أثبتت الرؤية أنها لم تكن مشروعًا إصلاحيًا عابرًا، بل مبادرة سيادية شاملة، أعادت تعريف دور المملكة إقليميًا وعالميًا، ورسخت نموذجًا وطنيًا قادرًا على قيادة التغيير لا مجرد التكيف معه.
تشير الأرقام الصادرة في تقرير أداء الرؤية لعام 2025 إلى تحقيق العديد من المستهدفات الكبرى قبل أوانها:
انخفض معدل البطالة بين السعوديين إلى 7% متجاوزًا مستهدف 2030، وارتفعت نسبة تملك الأسر السعودية للمساكن إلى 65.4% متجاوزة مستهدف 2024. كما قفز عدد المتطوعين إلى أكثر من 1.2 مليون متطوع، وسُجلت 8 مواقع سعودية ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، في حين بلغ عدد المعتمرين القادمين من الخارج 16.92 مليون معتمر، متجاوزًا الهدف المحدد لعام 2024. وعلى صعيد الاستثمار، ارتفعت أصول صندوق الاستثمارات العامة إلى 3.53 تريليون دولار، في دلالة على نضج إدارة الأصول وتعزيز التوازن المالي طويل الأمد.
ومع هذه الإنجازات، تبرز مرحلة جديدة من التساؤل: كيف يمكن الانتقال من تحقيق الأرقام إلى ترسيخ أثر تنموي عميق ومستدام؟
الواقع الجديد يتطلب التحول من قياس الكميات إلى تقييم نوعية التنمية، عبر أدوات أكثر شمولاً مثل العائد الاجتماعي على الاستثمار، ومستوى الابتكار المحلي، ومعدلات نمو الإنتاجية. ويعزز هذا التحول النمو الإيجابي للاقتصاد غير النفطي بنسبة 3.9%، بما يعكس تقدمًا فعليًا نحو فك الارتباط التدريجي عن النفط، ويؤكد ضرورة تسريع نمو القطاعات التقنية والمعرفية عالية القيمة.
في موازاة ذلك، تواصل الرؤية تعزيز دور القطاع الخاص الذي لم يعد مجرد منفذ لمشروعات حكومية، بل بات شريكًا رئيسيًا في صياغة مستقبل الاقتصاد. ارتفاع مؤشر مديري المشتريات إلى 58.4 نقطة يعكس هذه الحيوية المتجددة، مما يحتم مواصلة تحرير بيئة الأعمال، وتوسيع قنوات التمويل، وتسريع الابتكار التشريعي لدعم ريادة الأعمال وتعزيز تنافسية السوق.
كما يمثل تسارع التحول الرقمي في الحكومة والخدمات العامة فرصة استراتيجية لبناء حوكمة مرنة تشاركية، ترتكز على الذكاء الاقتصادي اللحظي، بما يضمن استجابة ديناميكية للمتغيرات وتعظيم كفاءة تخصيص الموارد.
ولضمان شمولية التنمية واستدامتها عبر جميع مناطق المملكة، تبرز الحاجة إلى إنشاء وحدة تنمية مناطقية ترتبط مباشرة بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، مدعومة بصناديق تنموية مرنة تعزز الحلول الابتكارية المحلية.
على الصعيد الاجتماعي، آن الأوان لإعادة تعريف دور القطاع غير الربحي، من خلال الانتقال من قياس حجم الإنفاق إلى تقييم الأثر التنموي الفعلي، عبر مصفوفات أداء دقيقة، بما يعزز شراكته الفاعلة في تحقيق مستهدفات الرؤية.
ومع اقتراب عام 2030، يبرز سؤال المستقبل: كيف نحافظ على استمرارية الزخم التنموي بعد انتهاء الإطار الزمني للرؤية؟
إن المحافظة على مكتسبات الرؤية وضمان استدامتها يتطلب تعزيز التكامل بين الخطط التنموية القطاعية والمبادرات الوطنية الكبرى تحت مظلة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، عبر تطوير آليات تنسيق ومراجعة استراتيجية مستمرة تضمن ترابط السياسات ومرونتها، وقدرتها على التكيف مع المتغيرات الإقليمية والعالمية.
كما تبرز الحاجة إلى إنشاء “الحساب الوطني الشامل للثروة” كخطوة استراتيجية لقياس رأس المال البشري والاجتماعي والمؤسسي بجانب المالي، بما يعزز قدرة المملكة على التخطيط الشامل والمستدام للأجيال القادمة.
ولأن المستقبل أصبح مشروعًا يُصنع لا مجرد امتداد للحاضر، فإن إنشاء مركز وطني لنمذجة المستقبل بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة يمثل خطوة محورية لدعم صناعة القرار الاستراتيجي وترسيخ ريادة المملكة عالميًا.
بالتوازي مع ذلك، يبرز تحفيز اقتصاد الفكر والإبداع كأولوية وطنية، من خلال تطوير مناطق اقتصادية متخصصة للإنتاج الثقافي والمعرفي وربط مساهمتها بالناتج المحلي، بما يعزز تحول المملكة إلى مركز إقليمي لصناعة المعرفة والإبداع، خاصة مع نمو المبادرات الثقافية النوعية.
ورغم قوة البنية الاقتصادية الحالية، إلا أن المحافظة على الزخم تتطلب التعامل الإيجابي مع تحديات نوعية جديدة تفتح بدورها فرصًا استراتيجية أوسع.
تتمثل هذه التحديات في ضرورة تحقيق التوظيف النوعي، عبر التركيز على خلق وظائف عالية القيمة ترتكز على الابتكار، التقنية، والمعرفة؛ وتسريع مكافحة التستر التجاري عبر أدوات رقمية متقدمة بما يرسخ الشفافية ويعزز بيئة الأعمال؛ وتعميق التنويع داخل القطاعات الاقتصادية بتوسيع سلاسل القيمة وتعزيز الإنتاجية؛ بالإضافة إلى تمكين المشاريع الصغيرة والمتوسطة بحلول تمويلية ذكية وربطها بالأسواق العالمية.
وفي ظل عالم اقتصادي شديد التقلب، تبرز أهمية تحصين الاقتصاد الوطني من خلال بناء سياسات مالية مرنة وتوسيع الشراكات الدولية، مع الالتزام بمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية لضمان استدامة النمو وجاذبية الاستثمار.
في المقابل، تحمل المرحلة القادمة فرصًا هائلة لتعزيز اقتصاد المعرفة، تطوير التمويل الأخضر، بناء سلاسل إمداد ذكية، وتفعيل رأس المال الاجتماعي كمحرك رئيسي للتنمية المستدامة.
إن مواجهة هذه التحديات بروح المبادرة والإبداع سيعزز من قدرة المملكة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وبناء نموذج سعودي مرن، متجدد، وقادر على المنافسة عالميًا لعقود قادمة.
ما تحقق حتى عام 2025 لا يمثل محطة وصول، بل يشكل انطلاقة نحو نموذج سعودي متجدد، يوازن بين القوة الاقتصادية، والمرونة المؤسسية، والإبداع المعرفي، ويتجه بثقة نحو بناء عقد اقتصادي واجتماعي أكثر تطورًا واستدامة لما بعد 2040.
لقد رسخت رؤية السعودية 2030 مكانة المملكة كقوة مؤثرة إقليميًا ودوليًا، وأرست معايير جديدة لصناعة التحولات الكبرى بإرادة وطنية راسخة.
لم تكن الرؤية مجرد خارطة طريق، بل مشروع أمة تصنع مستقبلها بوعي استراتيجي، وتعيد صياغة حضورها بثقة، وترتقي بطموحاتها إلى آفاق تليق بمكانتها وقدرات شعبها.
واليوم، لم يعد المستقبل مجرد تصور أو أمل، بل تحول إلى مشروع حيّ ينبض في كل ركن من أركان الوطن؛ نصنعه معًا بعقولنا، ونسير نحوه بخطى واثقة، وإيمان راسخ بأن الأفضل لم يأتِ بعد، وأن المملكة، بقيادتها وشعبها، ماضية إلى حيث تستحق أن تكون: في قلب المستقبل العالمي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال