الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في زمن تتزاحم فيه التشريعات وتتسارع الإصلاحات القانونية، تبرز عدة أسئلة جوهرية: كيف نتأكد من أن “التشريع” حقق هدفه فعلاً؟ وهل “إصدار تشريعات متطورة” كافٍ؟ وما مدى دقة “نقلة نوعية” في المنظومة القانونية؟ صانع القرار في بلدنا الحبيبة اليوم لا يرضى بالانطباع العام، بل يطلب دليلاً قابلاً للقياس، وهذا الدليل لا يتحدث إلا بلغة واحدة: لغة الأرقام والإحصاء.
فعندما تصدر وزارة التجارة نظاماً جديداً للشركات، أو يُعدّل على أحكام الاستثمار الأجنبي، فإن الهدف هو إحداث تغيير حقيقي في بيئة الأعمال، وهذا التغيير لا يمكن رصده دون قياس دقيق وتحليل علمي. هنا تتجلى أهمية التحول في التفكير القانوني من مجرد صياغة النصوص إلى قياس نتائجها بشكل منهجي.
في هذا السياق، يبرز دور الإحصاء كأداة محورية في القياس التشريعي، وهو العملية التي تهدف إلى تقييم أثر القوانين من خلال معرفة مدى تحقيقها لأهدافها، وما إذا كانت تُحدث آثارًا غير مقصودة.
يمارس الإحصاء دورًا محوريًا في تقييم أثر التشريعات من خلال قياس التغير في المؤشرات الكمية، مثل نسب التوظيف أو عدد المخالفات، قبل وبعد تطبيق التنظيم، وتحليل العلاقة السببية باستخدام أدوات مثل الفرق في الفرق والانحدار الخطي.
كما تسهم استطلاعات الرأي والنماذج المحاكاة الإحصائية، بما في ذلك محاكاة مونت كارلو، في التنبؤ بتأثيرات السياسات الجديدة تحت سيناريوهات مختلفة، بما في ذلك الأزمات أو ضعف الالتزام. وتُعد هذه الأدوات جزءًا مما يُعرف بـ “قياس أثر التشريع”، الذي يهدف إلى التحقق من مدى فاعلية التشريعات في الواقع العملي، وليس فقط على المستوى النظري.
فعلى سبيل المثال، يمكن تقييم أثر قانون تجريم التستر التجاري من خلال مقارنة المؤشرات الاقتصادية والسلوكية ذات الصلة قبل وبعد تطبيقه، مما يجعل الإحصاء أداة استراتيجية لصياغة تشريعات قابلة للقياس والتعديل، تعكس أثرًا ملموسًا في البيئة التنظيمية والاجتماعية.
لنأخذ مثالاً حياً من واقع المملكة نظام الشركات الجديد الذي دخل حيز التنفيذ مؤخراً. كيف نقيس نجاحه؟ يمكننا لنا رصد وقياسه احصائياً عبر مثلاً كمتغيرات معدل تأسيس الشركات الجديدة قبل وبعد تطبيق النظام، متوسط الوقت المستغرق لإتمام إجراءات التأسيس، نسبة الشركات المتعثرة أو المتوقفة عن النشاط سنوياً أو حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الشركات المحلية. كل هذه مؤشرات كمية يمكن تتبعها دورياً، ومقارنتها بالفترات السابقة، لنرى ما إذا كان النظام يحقق أهدافه المعلنة.
أو على سبيل المثال، إذا أرادت شركتان كبيرتان الاندماج، تطلب الهيئة العامة للمنافسة بيانات حول السوق: من يملك الحصة الأكبر؟ هل توجد شركات صغيرة منافسة؟ كيف تغيرت الأسعار والجودة في أسواق مشابهة بعد اندماجات سابقة؟ ثم تُستخدم هذه البيانات لتحليل ما إذا كان هذا الاندماج قد يؤدي إلى احتكار أو تراجع في جودة الخدمات. فإذا أشارت النتائج إلى ضرر محتمل على المستهلكين أو المنافسة، يمكن رفض الصفقة. هذا النوع من التحليل هو أيضًا شكل من أشكال قياس أثر التشريع، لأنه يختبر ما إذا كانت قوانين المنافسة الحالية كافية لحماية السوق. هنا قد يساعدنا الإحصاء في الإجابة على هذه الأسئلة.
وسأبسط الفكرة للقانوني الغير مختص بالإحصاء أو بالمفاهيم الاقتصادية لنأتي لدور الانحدار الخطي، وهو أسلوب إحصائي يقوم على المفاهيم الرياضية يساعدنا في فهم العلاقة بين متغيرين. حيث يمكن للباحث القانوني أن يبني نموذجاً يربط بين تطبيق النظام (المتغير المستقل) وعدد حالات التستر المكتشفة أو المبلّغ عنها (المتغير التابع). لو وجدنا انخفاضاً تدريجياً في المخالفات بعد تطبيق النظام، مع ثبات العوامل الأخرى (مصطلح اقتصادي واحصائي)، يمكننا الحديث عن أثر إيجابي للتشريع.
قد يقول قائلاً فالأثر التشريعي غالباً ما يحتاج وقتاً ليظهر. ولهذا تبرز أهمية تحليل السلاسل الزمنية التي ترصد المتغيرات على مدى فترات زمنية متتالية. خذ مثلاً تعديلات نظام العمل الأخيرة في المملكة. هل أدت إلى زيادة نسبة توظيف المواطنين في القطاع الخاص؟ وهل قللت من نزاعات العمل المرفوعة أمام المحاكم العمالية؟ بمتابعة هذه الأرقام على مدار سنتين أو ثلاث، نستطيع رسم صورة متكاملة عن تأثير التعديلات.
ولنوضح الفكرة بشكل أكبر يمكن استخدام تحليل السلاسل الزمنية كأداة لفهم أثر التشريعات على السوق بشكل دقيق. مثلاً، عند صدور نظام جديد يفرض على الشركات الإفصاح بشكل أوضح عن معلوماتها المالية، يمكننا أن نراقب كيف تغيّرت تقلبات أسعار الأسهم قبل وبعد هذا النظام. إذا لاحظنا أن التقلبات انخفضت بعد تطبيق التشريع، فهذا قد يدل على أن الإفصاح الأفضل ساهم في تقليل حالة عدم اليقين لدى المستثمرين.
على سبيل المثال بعد تعديل على نظام السوق المالية في قد تظهر البيانات أن الشركات التي التزمت بالإفصاح الكامل شهدت انخفاضاً في تقلب أسعار أسهمها بنسبة معينة خلال مرحلة معينة. هذه الطريقة تساعد المشرّع على تقييم فعالية التشريع بشكل علمي، بدلاً من الاعتماد على الانطباعات أو الآراء، كما تمكّنه من تعديل الأنظمة بناءً على نتائج واقعية وموثوقة. ويمكن لنا استخدام تحليل السلاسل الزمنية لفهم أثر إعلان العقوبات النظامية أو الغرامات على سلوك الشركات المدرجة. من خلال مقارنة أداء الشركات – مثل أسعار الأسهم أو حجم التداول – قبل وبعد الإعلان، يمكن قياس ما إذا كانت العقوبة قد أثّرت فعليًا على ثقة المستثمرين أو التزام الشركات بالأنظمة. هذا النوع من التحليل يسمح بعزل أثر الإعلان عن غيره من العوامل، ويقدّم تقييمًا كمّيًا دقيقًا يساهم في فهم فاعلية العقوبات كأداة تنظيمية، بدلًا من الاكتفاء بالتحليل الانطباعي أو العام.
اليوم لم يعد المستشار القانوني مجرد حافظ للنصوص أو محامٍ في قاعات المحاكم. وهذا لا يعني أن على المحامي أن يصبح خبيراً إحصائياً، لكن عليه امتلاك الحد الأدنى من المعرفة بأدوات التحليل الكمي، وكيفية قراءة المؤشرات الإحصائية، والقدرة على العمل مع محللي البيانات لاستخراج الدليل الذي يدعم الحجة القانونية.
ومن التوصيات التي يمكن اقتراحها كي تتحول ثقافة قياس الأثر التشريعي إلى واقع في المنظومة القانونية السعودية. يمكن لنا اقتراح تضمين مقررات التحليل القانوني الكمي في برامج كليات الحقوق والأنظمة بالجامعات السعودية، ايضاً تدريب المحاميين على مثل نشر تقارير دورية تشرح للمجتمع والمستثمرين الأثر الملموس للتشريعات الجديدة، مدعومة بالأرقام والمؤشرات. والأهم من ذلك وضع البيانات ومد يد العون للباحث في استخدام البيانات دون العقبات.
في الختام، القانون عمل لا قول إن النص القانوني المحكم الصياغة لا قيمة له ما لم يُحدث تغييراً إيجابياً في حياة الناس وبيئة الأعمال. والطريقة الوحيدة للتأكد من حدوث هذا التغيير هي القياس الدقيق والتحليل الموضوعي. لقد آن الأوان لنرى القانون والإحصاء كوجهين لعملة واحدة: صناعة التغيير المستند إلى البرهان. وبهذه الرؤية، ستتحول منظومتنا القانونية من مجرد نصوص تُتلى إلى أدوات فاعلة تُرى آثارها في كل مؤشر اقتصادي وتنموي. ببساطة، الإحصاء ليس مجرد أرقام معقدة—بل هو وسيلة فعالة لقياس مدى نجاح القوانين، ولجعلها أوضح، وأقوى، وأكثر عدلاً. فهل حان الوقت لأن نسمع القانون يتحدث… بلغة الأرقام؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال