الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُعدّ المستهلك عنصراً فاعلًا في الدورة الاقتصادية لأي دولة؛ إذ يشكّل الطلبُ الاستهلاكي الحافزَ الرئيسي لعملية الإنتاج، ويؤدي غياب ذلك إلى تعطُّل عجلة الاقتصاد، مما يُفضي إلى كساد اقتصادي واسع النطاق. من هذا المنطلق، تبرز أهمية حماية المستهلك وضمان حقوقه، ليس بوصفه عنصرًا اقتصاديًا فاعلاً، بل بصفته -أيضاً- طرفاً تعاقدياً يحتاج إلى الدعم القانوني لتعزيز موقفه في مواجهة الممارسات التجارية التي تفتقر إلى العدالة والإنصاف.
من هنا، دأبت النظم التشريعية على توفير حماية إضافية للمستهلك في عقود (Business-to-Consumer)، كونه الطرف الأضعف في العلاقة التعاقدية مع الطرف الآخر في العلاقة التعاقدية؛ فبينما يمتلك الأخير المعرفة الفنية الكافية، والقدرة الاقتصادية، والخبرة في صياغة العقود وإبرام الصفقات، قد يفتقر المستهلك العادي إلى -بعض أو- كل ذلك، ما يجعله عرضةً للاستغلال. لتوضيح هذه النقطة بشكل أكبر، عادةً ما تُبرم عقود (B2C) على شكل عقودٍ قياسية تفتقر إلى التفاوض بين الأطراف التعاقدية، وقد تتضمّن في بعض الأحيان شروطاً تجارية معقدة أو غامضة، كتلك المتعلقة بالإعفاء من المسؤولية. بالإضافة إلى ذلك، قد يجد المستهلك نفسه مُلزَمًا بعقدٍ لم يكن ليبرمه لولا عجزه عن فهم مضامينه أثناء إبرامه. وتزداد هذه الإشكاليات في ظل الانتشار الواسع للتجارة الإلكترونية (Ecommerce)، حيث لا يتمكن المستهلك من فحص المنتج للتأكد من جودته قبل عملية الشراء، ما يزيد من احتمالية صدور قرارات شراء غير مستنيرة.
من أجل مواجهة هذه التحديات، جاء “مشروع نظام حماية المستهلك” كمبادرةٍ تشريعيةٍ شاملة، تهدف إلى خلق التوازن في العلاقة التعاقدية بين المستهلك والمشغّل الاقتصادي؛ حيث يتميّز المشروع بتبنّي نهج حديث ومتكامل، يستند إلى أفضل الممارسات والتجارب الدولية، مع مراعاة الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية في المملكة.
ومن بين أبرز ملامح مشروع النظام، تحديد نطاق مفهوم “المستهلك”، إذ يقتصر نطاقه على “الأشخاص الطبيعيين” ممن يسعون -من خلال التعاقد- إلى تلبية احتياجاتهم الشخصية أو العائلية أو المعيشية، مستبعدًا بذلك “الأشخاص الاعتباريين”، أو من يهدف من إبرام العقد “لتحقيق أغراض تجارية”. وبهذا التحديد، يتجه المشروع نحو تركيز الحماية القانونية على الفئة الأضعف في العلاقة التعاقدية.
إضافةً إلى ذلك، ألزم “مشروع النظام” المشغّلَ الاقتصادي بتقديم المعلومات الجوهرية حول المنتج أو الخدمة قبل إبرام العقد، لتمكين المستهلك من اتخاذ قرارٍ مبنيٍّ على معرفةٍ كافية. وقد حظر صراحةً العديد من الممارسات التجارية غير العادلة، سواء في السياق التقليدي أو الافتراضي، وأخضع بنود العقود لمعايير تضمن عدم تضمينها شروطاً وأحكاماً مجحفة أو تعسفية بحق المستهلك.
ولتعزيز هذه الحماية، نظّم المشروع حقَّ المستهلك في فسخ العقد (The Right of Withdrawal) من العقد خلال مدةٍ معينة، دون تحمُّل تبعات مالية، أو حاجة لتقديم تبريرات عند ممارسة هذا الحق. كما أوجب المشروع مطابقة السلع والخدمات مع المعايير والمواصفات القياسية، مما يُكرّس ضمان الجودة في المعاملات التجارية، إلى غير ذلك من الأحكام القانونية.
أما على المستوى الإجرائي، فقد وضع المشروع آلياتٍ فعّالة لمراقبة الأسواق، وحدد العقوبات الإدارية والجزائية بحق من يخالف أحكام النظام. كما أسّس هياكل واضحة للنظر في النزاعات الناشئة بين المستهلكين والمشغلين الاقتصاديين، وأتاح من إمكانية فض تلك الخلافات عبر الوسائل البديلة لتسوية المنازعات، بما يشمل المنصات الرقمية، تحت إشراف جهاتٍ مختصة وفق معايير دقيقة.
ومن المبادرات المتميزة أيضًا، ما نصّ عليه المشروع من تمكين “جمعيات حماية المستهلك” من تمثيل المستهلكين أمام الجهات القضائية، ورفع دعاوى جماعية للمطالبة بالتعويض عن الأضرار الناتجة عن مخالفة أحكام النظام، وهو توجّه يعزّز المشاركة المجتمعية في الرقابة القانونية.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أحد أبرز الجوانب التي تميّز بها المشروع إدراجه لمفهوم “المستهلك المُعرّض للضرر” (A Vulnerable Consumer )، كما ورد في المادة الخامسة من المشروع، والذي يُعدّ إدخالًا جديدًا في البيئة التشريعية السعودية. ويستهدف هذا المفهوم تقديم حماية إضافية لفئاتٍ محددة من المستهلكين قد تتأثر قراراتهم بعوامل مؤثرة في الارادة، أو الإدراك مثل السن، أو الإعاقة، أو القصور في الفهم وغيرها. وقد استلهم المشرّع هذا المفهوم من التشريعات الأوروبية (EU Directive 2005/29/EC)، إلا أنه طوّره ليتّسع ليشمل كل حالة تؤثر سلبًا في قدرة المستهلك على اتخاذ قرارات سليمة، سواء أكانت شخصية أم موضوعية. ويتضح من ذلك أن المشرّع السعودي لم يقتصر على نقل الأحكام من النظم القانونية المقارنة – وهو ما يُعرف بنظرية الزرع القانوني (Legal Transplantation Approach) – بل سعى إلى مواءمة تلك المبادئ مع البيئة الوطنية، بما يضمن فعالية تطبيقها دون خلق تحديات قانونية أو اجتماعية.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن “مشروع نظام حماية المستهلك” يُمثّل خطوةً جادة نحو تحقيق التوازن العادل في العلاقة التعاقدية، وتعزيز ثقة المستهلك في السوق السعودي، وتمكينه من ممارسة حقوقه دون إضرار بالمصالح الاقتصادية للمشغّلين الاقتصاديين. ويتوقع أن يشكل أحد الركائز التشريعيةً المهمة لتحقيق التنمية المستدامة بما ينسجم مع مستهدفات رؤية المملكة 2030.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال