الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم يكن أحد يتخيل أن بطاقة صغيرة بحجم راحة اليد يمكن أن تُستخدم يومًا كأداة لإعادة تشكيل موازين القوة الاقتصادية في العالم. بطاقة الائتمان، التي لطالما ارتبطت في الوعي الجماعي بالرفاهية والمرونة وسهولة التنقل، تحوّلت في لحظة فارقة إلى رمز للهيمنة، بل إلى سلاح جيوسياسي لا يقل أثرًا عن العقوبات أو الرسوم الجمركية. تلك البطاقة التي تحمل شعارات Visa وMastercard بدت لسنوات وكأنها إحدى ملامح الحداثة الكونية، لكنها في العمق كانت أداة خفية في يد من يملك النظام، يفتح بها الأسواق حين يشاء، ويغلقها بضغطة واحدة حين يقرر.
ومع اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2022، تحركت الولايات المتحدة بخطوة حاسمة عبر القطاع الخاص، فانسحبت Visa وMastercard من السوق الروسي خلال أيام، وأُخرج نحو 197 مليون بطاقة من الخدمة، بحسب بيانات البنك المركزي الروسي. ملايين الأفراد والمؤسسات وجدوا أنفسهم فجأة محجوبين عن النظام المالي العالمي، غير قادرين على إجراء أبسط المعاملات، لا خارج البلاد ولا داخلها. لأول مرة في التاريخ الحديث، تُعزل دولة مالية بالكامل عن نظام المدفوعات العالمي، ليس عبر قرار أممي، بل بضغطة زر.
ذلك الحدث لم يكن عابرًا، بل كشف طبيعة جديدة للحماية الاقتصادية، حيث لم تعد أدوات الردع تنحصر في الحدود أو الموانئ، بل انتقلت إلى الخوارزميات، إلى ملكية الشبكات، وإلى من يتحكم في نقاط الدخول الرقمية. وسريعًا، جاء الرد الروسي عبر تفعيل نظام الدفع المحلي MIR، الذي كان لا يزال في طور التجربة، لكنه أعيد تشكيله ليصبح البنية الأساسية للمدفوعات داخل البلاد. وبنهاية عام 2023، تجاوز عدد البطاقات المصدرة من MIR أكثر من 287 مليون بطاقة، وتخطت حصتها من المعاملات المحلية 56%، وفق بيانات وزارة المالية الروسية.
لم تكن تلك استجابة ظرفية، بل بداية لمرحلة مختلفة من التاريخ الاقتصادي العالمي. مرحلة يتحول فيها توطين الدفع من خيار إلى ضرورة، من تحسين خدمة المستهلك إلى حماية الأمن القومي. ومع أن روسيا كانت ساحة التجربة الأولى، إلا أن الصدمة امتدت إلى بقية العالم، فأخذت الصين تعزز شبكتها CIPS لتخفيف الاعتماد على SWIFT، وعمّقت الهند استخدامها لبطاقة RuPay، بينما بدأت دول الشرق الأوسط، وفي مقدمتها السعودية، بتسريع وتيرة تطوير أنظمة دفع وطنية مثل “مدى” و”سداد”.
في الحالة السعودية، لم يكن المشروع تقنيًا بحتًا، بل مشروع سيادة ناعم. تغطي مدى اليوم أكثر من 96% من نقاط البيع داخل المملكة، وتُستخدم “سداد” في أكثر من 1.6 مليار عملية سنويًا، وفق بيانات البنك المركزي السعودي، فيما بلغت قيمة المدفوعات الرقمية المنفذة داخل المملكة خلال عام 2024 نحو 8.2 تريليون ريال. هذا ليس مجرد رقم ضخم، بل شهادة على نضج البنية التحتية المالية الرقمية، وتحول المملكة إلى أحد أكثر الاقتصادات تقدمًا في هذا المجال على مستوى المنطقة.
لكنّ التحدي الأهم لا يتعلق بالقدرة التشغيلية، بل بالاستقلالية السيادية. فالبنية مهما بلغت من تطور لا تعني السيادة ما لم تكن البرمجيات محلية، ومراكز البيانات داخل الحدود، والتشريعات ضامنة لحقوق الدولة والمواطن. في اللحظة التي تتحول فيها أنظمة الدفع من أدوات خدماتية إلى أدوات ضغط، تصبح السيادة الرقمية ضرورة سياسية قبل أن تكون خيارًا اقتصاديًا.
ولا تكتمل معادلة السيادة دون امتلاك الحلقات الأعمق من سلسلة القيمة الرقمية، من البنية التحتية للاتصال، إلى مراكز البيانات، إلى تقنيات الحوسبة السحابية، وصولًا إلى تطوير الخوارزميات وأنظمة التشغيل. فكما لا يُبنى اقتصاد نفطي على أنابيب يملكها الآخرون، لا تُبنى سيادة مالية على أنظمة تشغيل مستوردة بالكامل، أو على بيانات مخزنة خارج الحدود.
والتحول نحو هذا النموذج يثمر أثرًا اقتصاديًا مباشرًا، من تقليص تسرب البيانات إلى حماية العملات الأجنبية من النزيف غير المرئي الناتج عن عمولات مزودي الخدمة الدوليين. كما يمنح الدولة قدرة تدخل فورية في الأزمات، دون الحاجة لانتظار موافقة طرف ثالث، ويخلق بيئة محفزة للابتكار في التقنية المالية، من المحافظ الرقمية إلى حلول المدفوعات الذكية.
بل إن الأثر يمتد إلى أعمق من ذلك، إلى “الاقتصاد النفسي”. فعندما يطمئن المواطن أن دولته تملك زمام شبكاتها المالية، وتدير أنظمتها الرقمية بعيدًا عن الهيمنة، تزداد ثقته بالنظام، وتتراجع مخاوفه من الانقطاع أو الاستبعاد. وهذه الثقة هي ما يرفع معدلات التفاعل مع الخدمات، ويغيّر سلوكيات الادخار والإنفاق، ويُرسّخ استقرارًا اقتصاديًا يصعب كسره عند الأزمات.
وفي هذا السياق، تتجلى فكرة عميقة تستحق التأمل. لم يعد المال في زمننا مجرد أوراق تحفظ في الخزائن، بل أصبح انعكاسًا رقمـيًا يتحرك على الشاشات ويستقر في الأنظمة. ومع هذا التحول، لم تعد القيمة في الرقم ذاته، بل في قدرتنا على الوصول إليه، والتحكم به، والشعور بالطمأنينة تجاهه. فالمال الذي لا نملك مفاتيح نظامه، لا يكتمل اطمئناننا إليه. ومن هنا، تتعزز الحكمة في أن تكون السيادة المالية جزءًا من منظومة الثقة الوطنية. فحين يكون نظام الدفع مُدارًا بأيدٍ وطنية، وتخضع بياناته وتشغيله لضوابط محلية، يصبح الرصيد أكثر من مجرد رقم؛ يصبح وعدًا بالأمان، واستمرارية في الوصول، وطمأنينة في أوقات التغير. وفي المجتمعات، كما في الأفراد، لا يكفي أن نعرف كم نملك، بل يجب أن نعرف أن ما نملكه في مأمن. وهذا لا يتحقق إلا حين تكون البنية الرقمية وطنية، والسياسات شفافة، والثقة متبادلة. فكما قيل: الأمان ليس في ما تملك، بل في قدرتك على استخدامه حين تحتاج إليه
وفي عالم تتكثف فيه استخدامات العقوبات كأداة للسيطرة، تصبح البنية السيادية لأنظمة الدفع بمثابة درع رقمي، تحصّن الاقتصاد الوطني من التجميد، وتحمي الأفراد من أن يكونوا رهائن لصراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. هذا هو جوهر السيادة الرقمية: أن تكون قادرة على حماية استقرارك النفسي أولًا، قبل أن تحمي تدفقك المالي.
أما الدول التي لم تواكب هذا التحول، فتجد نفسها في مواجهة تآكل سيادتها الاقتصادية، حتى لو بدت قوية من الخارج. ففي منتدى أنطاليا الدبلوماسي، وصف الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس بلاده بأنها تستخدم “بطاقة ائتمان ضخمة اسمها الحكومة الفيدرالية”، مشيرًا إلى عجز مزمن في الحساب الجاري يتم تغطيته بالديون بدلًا من الضرائب، تحت ضغط جماعات النفوذ. هذا الوصف يكشف هشاشة داخلية في بنية الاقتصاد الأمريكي، ويضعنا أمام سؤال مركزي: هل تُستخدم السلطة المالية لتعويض القصور… أم لتكوين القيمة؟
السعودية تسير في مسار مغاير يعيد تعريف معنى الإنفاق العام. بدلًا من الاستدانة لتغطية العجز، تُوجه الفوائض إلى أدوات سيادية مثل صندوق الاستثمارات العامة، وتُدار الحوافز الاقتصادية ضمن نموذج متماسك يتماشى مع مستهدفات الاستدامة بعيدة المدى. وهنا، لا تُستخدم المالية العامة لتسكين الاختلالات، بل لبناء المستقبل.
ومع أن الطريق نحو السيادة المالية الرقمية ليس خاليًا من التحديات، من مقاومة بعض المؤسسات للتغيير، إلى تعقيدات تفكيك الارتباط مع المنصات الدولية، إلا أن الحل لا يكمن في القطيعة، بل في التكامل الذكي، وفي الموازنة بين الكفاءة التشغيلية والهدف السيادي.
تجارب العالم تؤكد هذا الاتجاه. الصين ربطت سيادتها المالية بمبادراتها الجيوسياسية، روسيا جعلت MIR أداة مقاومة للعقوبات، الهند دمجت RuPay في برامج العدالة الاجتماعية، سنغافورة ربطت PayNow بالهوية الرقمية وسهّلت التحويلات الإقليمية، وأوروبا أطلقت EPI كبديل مشترك للأنظمة الأمريكية. أما المملكة، فبإمكانها أن تقود مبادرة دفع رقمية إسلامية متوافقة مع الشريعة، وموجهة للحج والعمرة والتعاملات العابرة للحدود، بالتكامل مع مشاريعها السيادية والاستثمارية.
وفي الوقت الذي تعمل فيه مؤسسة النقد على تطوير الريال الرقمي (CBDC)، يمكن أن يشكّل هذا المشروع منصة سيادية للمدفوعات الآنية، ويُدمج مع أنظمة الهوية الرقمية “نفاذ”، لتكوين شبكة وطنية متكاملة ومترابطة.
ومن أجل تحقيق هذا التحول بفعالية، يمكن إنشاء “المجلس الوطني للمدفوعات السيادية”، تحت إشراف البنك المركزي، يضم الجهات التنظيمية والتقنية والمالية، ويعمل على صياغة استراتيجية وطنية متكاملة لحوكمة المدفوعات الرقمية وربطها بالأمن الاقتصادي. على هذا المجلس أن يُفعّل ثلاث مراحل متكاملة: التمكين التقني الكامل للبنية التحتية، والتشريع السيادي لتخزين البيانات، والتوسع الذكي إقليميًا، لتحويل المملكة إلى مركز موثوق للمدفوعات الرقمية المستقلة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
ولن تكتمل هذه السيادة دون تمكين جيل جديد من المبرمجين والمصممين والمبتكرين السعوديين، ممن يحملون المعرفة والقدرة على بناء برمجيات الدفع، وخوارزميات الأمان، وحلول الذكاء المالي. فكل خوارزمية محلية هي لبنة في جدار السيادة.
في زمن السيادة، لم تعد بطاقة الائتمان مجرد وسيلة للدفع. بل أصبحت جواز عبور… أو قرار منع. وصار مصير الفرد والدولة قد يتوقف على من يتحكم بزر “إيقاف الخدمة”. ومن هنا… تُصنع السيادة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال