الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين تتجاوز القيمة السوقية للشركات التقنية التي تطرق أبواب الرياض سقف 7 تريليونات دولار، لا يمكن اعتبار المسألة مجرد توسع استثماري، فنحن أمام لحظة تُعاد فيها خرائط النفوذ التكنولوجي من خارج المركز الغربي التقليدي، فشركات مثل “NVIDIA” و “Amazon” و “Tesla” و”OpenAI” لا تُجدد تموضعها من “وادي السيليكون” فقط، بل ومن الرياض أيضا، ضمن مشروع سيادي يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والتقنية، ويتجاوز مجرد توفير بيئة عمل.
هذه الشركات – وغيرها – لا تدخل السوق السعودي بوصفه مستهلكا، بل شريكا في معادلة ما بعد الاعتماد الأحادي على الصين، وما بعد ارتفاع كلفة التشغيل في الغرب، فالحوافز هنا ليست مالية فقط، بل استراتيجية، والمملكة تقدم إطارا مؤسسيا طويل المدى، غير خاضع للتقلبات السياسية، تديره دولة تملك مشروعا وطنيا يتقاطع مع الرهانات التقنية العالمية.
من منظور الاقتصاد السياسي، لم تعد الدول تُقاس بحجم ناتجها فقط، بل بقدرتها على جذب التكنولوجيا السيادية وتوطينها، وهذا ما أدركته المملكة مبكرا واستثمرت فيه، بينما فشلت بيئات أخرى في المنطقة – رغم تفوقها الإداري الظاهري – في التحول إلى مراكز إنتاج سيادي، لذلك، تتقدم الرياض اليوم على أسواق المنطقة مثل دبي وأبو ظبي والدوحة، التي رغم مرونتها، تُقدم كمراكز خدمات مساندة لا كمراكز إنتاج معرفي، أو كعواصم لإعادة التموضع الجيوتقني.
إضافة، فإن مفهوم “استقرار القاعدة الديمغرافية كشرط للسيادة الإنتاجية” يعتبر عامل حاسم في المعادلة، ففي تلك المدن، يندر الوزن السكاني الوطني، وتضعف منظومات التعليم المحلية في إنتاج المعرفة، لا استيرادها فقط، وهذه هشاشة بنيوية لا تعالج بالحوافز، أما في المملكة، فقاعدة المواطنين التي تتجاوز 20 مليونا تشكل أصلا سياديا يُمكّن من بناء استقرار معرفي وتنظيمي طويل المدى، والكثافة هنا ليست عبئا، بل ذراع تنفيذية قادرة على تمثيل التقنية وإنتاجها داخل نموذج سيادي لا استهلاكي.
لكن هذا الزخم بحاجة إلى منظومة معرفية متوازية، والسؤال الحتمي هنا: هل الجامعات السعودية جاهزة للقادم؟
باستثناء جامعة الملك سعود، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية “كاوست”، ورغم المبادرات الأخيرة لتحسين أداء الجامعات، لا تزال أغلبها تُقاد بمنطق تقادمي، حيث البحوث منفصلة عن السوق، والمناهج بلا وظيفة إنتاجية، والكفاءات الأكاديمية تُستنزف بفعل البيروقراطية.
هنا تشير دراسة صادرة عن “Boston Consulting Group” في تقريرها الصادر عام 2022 بعنوان ‘Bridging the Innovation Gap in Emerging Markets’، إلى أن ما يقرب من 70% من استثمارات التقنية في الدول النامية تفشل إذا لم تُصاحبها سياسات توطين معرفي، وربط جامعي حقيقي بين البحث والإنتاج، ولا يمكن تحقيق ذلك دون مراجعة بنية المجالس الأكاديمية، وآليات الحوكمة داخل الجامعات، واستقلالها المؤسسي والمالي بما يتواءم مع متطلبات التموقع السيادي الجديد.
التحالفات التقنية القادمة ليست سوقا مفتوحة، بل خريطة نفوذ تُعيد توزيع القوة لعقود قادمة، والمملكة أمام فرصة أن تكون مركز هذه الخريطة لا طرفا فيها، لكن هذا يتطلب عقلا جامعيا قياديا ابتكاريا، يعي ماذا يعني السوق والمستقبل، وتشريعات تعليمية جريئة ومتقدمة، وتحالفات أكاديمية وبحثية لا تُغريها الواجهة بل تضبطها الوظيفة.
المملكة العربية السعودية اليوم لا تكتفي بأن تكون مستقبلة للاستثمار، بل تعيد هندسة الجاذبية ذاتها، ومن لا يدرك هذا التحول، لن يفهم لماذا تُعاد صياغة نفوذ “السيليكون فالي” من خارج حدودها، ومن قلب الرياض.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال