السعودية.. تحديات اقتصادية وعزيمة مالية قوية في الربع الأول 2025

في عالمٍ يتقلب فيه الاقتصاد كما تتقلب أمواج البحر، وتُعيد الأزمات رسم خرائط النمو والاستقرار، خرجت السعودية بتقرير ربعي لميزانيتها العامة، أشبه برسالة طمأنينة وسط عاصفة عالمية. وبينما تتهاوى مؤشرات في أسواق، وتضطرب توقعات في أخرى، نجحت المالية السعودية في تقديم لوحة متماسكة ترسم فيها ملامح توازن دقيق بين الطموح التنموي والحذر المالي.

إنها ليست مجرّد أرقام، بل انعكاس لسياسة ترى أبعد من مؤشرات الربع الواحد، وتبني استراتيجيتها على قراءة ذكية لما وراء الأفق. فماذا تخبرنا لغة الأرقام عن موقعنا اليوم؟ وكيف نواصل السير بثقة نحو 2030 بينما العالم يترقب أنفاسه؟

رغم التحديات الاقتصادية العالمية وتذبذب أسعار النفط، كشفت وزارة المالية في تقريرها الربعي لأداء الميزانية العامة عن نتائج تعكس مرونة السياسة المالية للمملكة وقدرتها على مواصلة الإنفاق التنموي ضمن رؤية السعودية 2030، مع الحفاظ على الاستدامة المالية. فقد بلغ إجمالي الإيرادات خلال الربع الأول من عام 2025 نحو 264 مليار ريال، منخفضاً بنسبة 10% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق التي سجلت فيها الإيرادات 293 مليار ريال.

ويعود هذا الانخفاض بشكل رئيسي إلى تراجع الإيرادات النفطية بنسبة 18% لتصل إلى 150 مليار ريال، نتيجة هبوط أسعار النفط وتوقف بعض الأرباح غير المتكررة التي تحققت العام الماضي. ورغم هذا الانخفاض، نجحت الحكومة في تقليل الأثر من خلال استمرار نمو الإيرادات غير النفطية بنسبة 2% لتصل إلى 114 مليار ريال، في دلالة واضحة على فاعلية برامج ومبادرات رؤية السعودية 2030 التي تستهدف تنويع مصادر الدخل وتعزيز الأنشطة غير النفطية، ورفع كفاءة البيئة الاستثمارية، واستقطاب استثمارات نوعية من مختلف أنحاء العالم.

وعلى صعيد الإنفاق، فقد ارتفعت النفقات إلى 322 مليار ريال، بزيادة قدرها 5% عن الربع الأول من عام 2024، مما أدى إلى تسجيل عجز مالي بلغ 59 مليار ريال مقارنة بـ12 مليار ريال خلال نفس الفترة من العام الماضي. ورغم هذا الارتفاع، فإن الحكومة تواصل العمل وفق مبدأ المرونة، مع إعطاء الأولوية للمشاريع التي تمس احتياجات المواطن الأساسية وتعزز جودة الحياة.

ويُلاحظ تفاوت في مستويات الإنفاق بين القطاعات خلال هذا الربع، وهو أمر طبيعي يعكس طبيعة المشاريع وتوقيت تنفيذها، حيث تبدأ بعض الجهات مشاريعها بوتيرة أسرع نظراً لأهميتها الاستراتيجية، بينما تشرع جهات أخرى في الصرف تدريجياً، خصوصاً إذا كانت مشاريعها قد اكتملت في وقت سابق. وتتيح هذه المنهجية المرنة إمكانية إعادة توزيع الإنفاق لاحقاً بما يضمن الالتزام بالسقف السنوي وتحقيق أفضل النتائج الممكنة.

وعلى الرغم من ارتفاع نفقات التمويل بنسبة 23% مقارنة بالربع الأول من 2024، إلا أن هذا الارتفاع يُعزى إلى زيادة حجم الدين العام، الذي لا يزال ضمن مستويات مستدامة وآمنة بحسب المعايير الدولية. وتؤكد وزارة المالية أن العجز المسجل في هذا الربع مخطط له، ولا يمكن الجزم بارتفاعه في نهاية العام، فالمتبقي من السنة المالية لا يزال يحمل احتمالات متعددة، يتم التعامل معها من خلال إعداد سيناريوهات متنوعة تهدف لتعزيز مرونة المالية العامة وضمان الاستقرار المالي. كما أن التصنيفات الائتمانية المرتفعة التي تحصل عليها المملكة من وكالات التصنيف العالمية تعكس ثقة المجتمع الدولي بسياسات المملكة الاقتصادية وقدرتها على التكيف مع المستجدات.

ويشهد الاقتصاد غير النفطي أداءً متماسكاً، حيث حافظ مؤشر مديري المشتريات على مستواه المرتفع عند متوسط 59 نقطة، وبلغ في يناير 60.5 نقطة، وهي أعلى قراءة منذ 2014، ما يشير إلى توسّع كبير في أنشطة القطاع الخاص. كما سجل الإنفاق المحلي نمواً سنوياً بنسبة 12.3%، يعكس تزايد الثقة وتحسن البيئة الاقتصادية. وفي الوقت ذاته، انخفض معدل البطالة بين السعوديين إلى أدنى مستوى تاريخي عند 7.0% بنهاية الربع الرابع من 2024، ما يمثل نجاحاً ملموساً في تحقيق مستهدفات الرؤية المتعلقة بتوطين الوظائف.

وتتابع الحكومة عن كثب التطورات العالمية، بما في ذلك التوترات الاقتصادية والصراعات التجارية، وتعمل على تقليل أي آثار محتملة من خلال التخطيط المالي بعيد المدى، الذي يساعد في بناء قرارات مستنيرة تحافظ على الاستدامة المالية، وتمنح الاقتصاد قدرة على التكيّف مع الصدمات الخارجية. وحتى في حال استمرار تراجع أسعار النفط أو وقوع ركود عالمي، فإن سياسة المملكة الثابتة تركز على حماية الحاجات الأساسية للمواطن، بينما تبقى بقية البنود خاضعة للمراجعة والتعديل بحسب المستجدات، دون المساس بجوهر الخطط التنموية.

ويُعد النجاح المستمر في تنمية الإيرادات غير النفطية هدفاً استراتيجياً ضمن التنمية المستدامة، حيث تؤدي زيادة الإنفاق الرأسمالي في بعض القطاعات إلى تعظيم عوائدها المالية، مما يسهم بدوره في تعزيز قاعدة التنويع الاقتصادي، وتوسيع آفاق النمو للقطاع الخاص، وخلق فرص عمل جديدة، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. كما أن تطبيق مبدأ الاستدامة المالية في سياسات الإنفاق، وتوجيه الموارد بكفاءة نحو المشاريع التحولية، قد أوجد قاعدة صلبة للثقة في الاقتصاد السعودي، وأسهم في رفع حجم الاستثمارات المشتركة بين السعوديين والأجانب، ما يعزز من متانة الاقتصاد الوطني وقدرته على مواصلة النمو رغم التحديات.