الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين تتهيأ المدن للنوم وتبدأ أنوارها بالخفتان بعد الثانية عشرة صباحًا، كانت السعودية تفكّر بطريقة مختلفة. لا تُطفئ الضوء، بل تشعله على فصل جديد من الحراك. في اللحظة التي يغفو فيها العالم، كانت المملكة العربية السعودية تستعد لإطلاق اقتصاد لا يبدأ إلا حين تغرب الشمس.
في وقتٍ ظلت فيه الحياة الحضارية ترتبط بساعات النهار، ظهر نمط جديد من الحركة ينبض بعد المغيب، لا يشبه ما عرفته المدن من قبل. نبضٌ ليلي يفتح أبوابًا جديدة للفرص، ويمنح الشوارع طابعًا آخر، وتتحول فيه المقاهي والفعاليات والمشاريع الصغيرة إلى مكونات رئيسية في دورة اقتصادية لا تهدأ.
لم يعد هذا التمدد الليلي في حياة المدن ترفًا أو مجرد رغبة في الترفيه، بل أصبح ذراعًا من أذرع النمو، وأداة لإعادة تعريف الزمن الاقتصادي في المدينة. المدن لم تعد تنام، والفرص لم تعد حكرًا على النهار.
في عمق هذا التحول تقف رؤية السعودية 2030، التي لم تُحدث فقط تحولات هيكلية في الاقتصاد، بل أعادت تشكيل علاقة الإنسان بزمنه ومكانه. النهار لم يعد وحده هو وقت الإنتاج، والليل لم يعد سكونًا مطلقًا، بل فرصة اقتصادية تزدهر فيها قطاعات جديدة بالكامل.
دعونا نقرّب الصورة أكثر: الرياض تُعد مثالًا واضحًا على هذا التحول؛ من مدينة كانت تنام باكرًا إلى مدينة لا تنام أبدًا. المقاهي ممتلئة، والفعاليات ممتدة، والمراكز التجارية تعمل حتى ساعات متأخرة، وعربات الطعام تصنع مشهدًا اجتماعيًا مختلفًا. ولا يتوقف الأمر عند الترفيه، بل يشمل منظومة متكاملة من النقل والخدمات والتوصيل والوظائف، التي باتت تعتمد على “حيوية الليل” كمصدر دخل واستقرار.
الأرقام تدعم هذا التحول. في عام 2024، نمت الأنشطة غير النفطية بنسبة تجاوزت 4.3%، وارتفعت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى أكثر من 51%، وهي أعلى نسبة في تاريخ الاقتصاد السعودي. هذه القفزة لم تأت من النفط ولا من المؤسسات التقليدية وحدها، بل من فتح مساحات جديدة للاستهلاك والإنتاج بعد مغيب الشمس.
كما ساهم هذا النمط الجديد في خلق وظائف مرنة وموسمية، خصوصًا لفئات الشباب والنساء ورواد الأعمال. وشهدت السعودية في عام واحد فقط خلق ما يزيد على 1.8 مليون وظيفة، وانخفضت نسبة البطالة بين السعوديين إلى 7%، في أدنى مستوى تاريخي لها.
هذا التحول الليلي لم يغيّر فقط مواعيد العمل، بل غيّر ثقافة المدينة، وأعاد هندسة المشهد العام. أصبح للمدينة نبضان: واحد في وضح النهار، وآخر لا يقل عنه حيوية بعد الغروب. ومن الطبيعي اليوم أن تكون نقطة اللقاء مساءً لا صباحًا، وأن تبدأ بعض الأعمال بعد منتصف الليل لا قبلها.
في هذا المشهد، لا تتوسع ساعات العمل فقط، بل تتسع الحياة الحضارية نفسها. تتحول من مجرد مظاهر نهارية إلى أسلوب حياة متكامل يربط بين الإبداع والإنتاج، وبين الذوق والاقتصاد، وبين الترفيه والتنمية. لم تعد المدينة الحديثة تفصل بين الليل والنهار، بل تدمج بينهما لتصنع إيقاعًا جديدًا للحياة.
ختام القول..
الاقتصاد الليلي في السعودية اليوم ليس مجرّد نشاط فرعي، بل هو رواية جديدة تُكتب عن كيف تُبنى المدن الحديثة، وكيف تتسع الحياة الحضارية لتشمل النهار والليل، العمل والاستمتاع، الإنتاج والذوق. إنه دليل حي على أن التحول ليس فقط في الأرقام، بل في الإيقاع الذي تعيشه المجتمعات، والخيارات التي تمنحها لناسها.
هكذا تواصل المملكة كتابتها للفصل الجديد من نهضتها. لا تكتفي أن تُبهر العالم في وضح النهار، بل تُفاجئه كل ليلة بمدن لا تعرف النوم، وفرص لا تنتهي مع الغروب، واقتصاد يتنفس الضوء… حتى بعد أن تُطفأ المصابيح في أماكن أخرى من العالم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال