الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في أروقة الأسواق العالمية، لم يعد الارتجاف حكرا على الشركات الصغيرة أو الهشة، فأيادي العديد من الشركات العملاقة نفسها بدأت ترتجف مع اشتداد صراع الهيمنة بين الصين – التي تقتحم الأسواق بلا قواعد متكافئة – والولايات المتحدة المصرة على احتكار مركزها المحوري، فلم يعد النزاع خلافا على القيم أو الأيديولوجيات المعلنة، بل معركة على إعادة تشكيل مركز الثقل الاقتصادي العالمي، وعلى أبواب زمن يلفظ مبدأ تعظيم الأرباح أنفاسه الأخيرة.
كثير من الشركات الكبرى حول العالم تدرك أن عليها الانتقال من دائرة تعظيم الأرباح إلى معادلة البقاء، ففي عالم يعيد ترتيب مراكزه بالمكاسرة المدعومة بالقوة لا بالتفاوض القائم على المصالح المشتركة، قد تصبح النجاة امتيازا لا يُمنح إلا للأسرع تكيفا، لا للأضخم أو الأعرق، ورغم محاولات البعض تصوير هذا الصراع كفرصة لصيد الأرباح.
إلا أن هذا التفكير يبدو منفصلا عن منطق الاقتصاد السياسي الراهن، فأساسيات السوق لا تنسجم بالضرورة مع استعراض القوة الجيوسياسية، وما يُقال على المنابر السياسية لا يُترجم بالضرورة في خطوط الإنتاج وحركة التجارة، فالأسواق لا تنصاع لإرادة زعيم، بل تخضع لمفهوم “الاعتماد المتبادل المركب”، والعلاقات بين القوى الكبرى لم تعد قابلة للفصل دون أضرار متبادلة عميقة، ولو افترضنا قطيعة تامة بين الصين وأمريكا، فإن أثرها السلبي المؤلم في أمريكا سيمتد من شرقها لغربها.
والصين نفسها لن تكون بمنأى عن الأضرار، فهي الأخرى ستخسر أسواقها الكبرى، وتتوقف آلاف المصانع عن العمل، وسيواجه الاقتصاد الداخلي ضغوطا اجتماعية وسياسية متزايدة، فضلا عن أن الولايات المتحدة تحتفظ بأدوات ضغط مالي وجيواقتصادية تجعل من الصعب على الصين تعويض السوق الأمريكي بسرعة أو بالسهولة المتخيلة.
العلاقات التجارية – وإن بدت مختلة – تستمر في خدمة مصالح متبادلة لا يمكن استبدالها خارج الإطار القائم، فالصين لا تسعى لتكرار النموذج الأمريكي، وأمريكا لا تقبل منافسا يقترب من مركزها، وهذا يعني أن الحديث عن قطيعة تامة لا يتجاوز كونه تهديدا أجوفا، فالعداء – وإن تصاعد – يبقى قابلا للتفاوض، أما الانفصال الكامل فهو خطر لا يملك أي طرف رفاهية تحمله، وهنا مكمن مفهوم “التوازن غير المتماثل”.
لكن يظل السؤال المهم وهو هل تمتلك شركات كبرى عديدة حول العالم القدرة على إعادة هيكلة نفسها بما يكفل تقليل اعتمادها على هذا التشابك الثنائي دون الإضرار بمصالحها الأساسية، في محاولة لإرساء نموذج فك ارتباط جزئي مُدار يهدف إلى خفض المخاطر الاستراتيجية دون المساس بالعمليات الرئيسية في حال تصاعد التوترات؟
يبقى هذا التوجه محصورا في قطاعات محددة مثل التقنية العالية والطاقة، كما يظهر جليا في محاولات شركات مثل “آبل” التي سعت إلى نقل جزء من عمليات التصنيع خارج الصين نحو الهند وفيتنام لتقليل اعتمادها على سلاسل الإمداد الصينية، أو شركة “تسلا” التي أنشأت مصانعها الضخمة داخل الصين، لكنها تواجه ضغوطا متزايدة لتقليل هذا الانكشاف، وبالمثل تواجه “هواوي” قيودا صارمة بفعل قرارات الحظر الأمريكية، مما دفعها إلى الاستثمار القسري في تطوير مكونات محلية لتعويض فقدان الموردين الغربيين.
أما الصناعات التحويلية فستكون رهينة الاعتماد المتبادل، وعاجزة عن فك التشابك دون خسائر هيكلية، فإعادة الهيكلة ليست خيارا حرا بالكامل، بل مقيدة بالإمكانات التكنولوجية والمالية وموقع هذه الشركات ضمن سلسلة القيمة العالمية، وتبرز صناعات مثل البتروكيماويات والأسمدة والمعادن الأساسية كأبرز الأمثلة على الصناعات التحويلية المهددة، نظرا لاعتمادها العميق على سلاسل إمداد وأسواق ومعدات دولية متداخلة تجعل محاولات إعادة التموضع محفوفة بتكاليف باهظة وتعقيدات تقنية يصعب تجاوزها.
صراع الهيمنة بين الصين وأمريكا سيعيد تعريف شروط البقاء في الاقتصاد الدولي، وستحسمه الدولتان من خلال إعادة هندسة اعتمادهما على بعض دون أن يتفككا، وليبرز السؤال الأهم لنا وهو هل لدى شركاتنا الضخمة المصدرة الجرأة والقدرة – لكيلا تكون ضمن الضحايا – على الاستثمار في مرونتها التنظيمية، أم ستبقى أسيرة اعتمادها على مراكز القوة الدولية حتى تجد نفسها بلا خيار؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال