الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كل عام، تتجه أنظار العالم الإسلامي نحو مكة المكرمة، حيث يتوافد الملايين لأداء العمرة، وسط تنظيم متقن ودقة عالية لمعتمري الخارج. لكن وسط هذا الزخم، يبرز سؤال ملح: لماذا لا يحظى معتمر الداخل، من مواطنين ومقيمين، بنفس مستوى العناية والتنظيم؟ كبار السن، والمرضى، والعائلات.. جميعهم يواجهون مشقة لا داعي لها كان يمكن تجنبها بخدمة احترافية. هل آن الأوان لإعادة التفكير في طريقة تعاملنا مع عمرة الداخل؟ وهل يمكن أن تتحول هذه العبادة المباركة إلى تجربة ميسّرة وآمنة تُدار عبر شركات متخصصة كما هو الحال لمعتمري الخارج؟
في عام 2023، بلغ عدد معتمري الداخل من المواطنين والمقيمين أكثر من 10 مليون معتمر، وهو رقم في تزايد مستمر سنويًا. في المقابل، بلغ عدد المعتمرين من الخارج حوالي 8.5 مليون معتمر في نفس العام، ما يعكس الفرق في حجم التنظيم بين الفئتين. ورغم أن معتمري الداخل يشكلون نسبة كبيرة من إجمالي المعتمرين، فإن تنظيم تجربتهم لا يزال يفتقر إلى الكفاءة والاحترافية التي نراها في تنظيم عمرة الخارج عبر منصات مثل “نسك”. هذا الواقع يبرز الحاجة الملحة لتطوير نموذج تنظيمي يرقى بتجربة معتمري الداخل إلى المستوى الذي يليق بمكانة الحرمين الشريفين.
وسط التحولات المتسارعة التي نشهدها في منظومة خدمات الحج والعمرة، وبعد النجاح اللافت الذي حققته منصات تنظيم عمرة الخارج، مثل “نسك”، تتولد فكرة ملحة تتعلق بمعتمري الداخل، وهي لماذا لا تتم إدارة وتنظيم عمرة المواطنين والمقيمين داخل المملكة بنفس الكفاءة والاحترافية؟ فواقع الحال يشير إلى أن هذه الفئة تشكل نسبة كبيرة من المعتمرين سنويًا، ومع ذلك فإن تجربتهم ما زالت تُدار بشكل فردي ومرهق، وخاصة لكبار السن والعجزة والمقعدين.
من الطبيعي أن نتطلع إلى نموذج تنظيمي يرقى بتجربة معتمري الداخل إلى المستوى الذي يليق بمكانة الحرمين الشريفين. يمكن أن تتمثل هذه الفكرة في إنشاء شركات مرخصة تقدم خدمات متكاملة للعمرة الداخلية تبدأ بالحجز الإلكتروني، ومرورًا بنقل المعتمرين من المواقف الخارجية أو من مقار سكنهم إلى الحرم، وانتهاءً بتوفير عربات الطواف والسعي، ومرافقة المسنين وذوي الإعاقة، ومساعدتهم على أداء المناسك بكل يسر وسهولة. هذا النموذج من الخدمات يمكن أن يقدم عبر باقات متعددة تناسب مختلف شرائح المجتمع، من باقات اقتصادية بسيطة إلى خدمات راقية تشمل مرافقين شخصيين ومساعدين صحيين.
الأمر يتجاوز مجرد تحسين الخدمة، فالفكرة تحمل في طياتها بعدًا اقتصاديًا واجتماعيًا وتنمويًا كبيرًا. فتح المجال أمام الشركات الوطنية المتخصصة يعني خلق فرص وظيفية جديدة في مجالات النقل، والخدمة، والتقنية، ويعني أيضًا تمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من الدخول في هذا السوق المهم والموازي لمنظومة الحج. كما أن الفائدة المجتمعية تتجسد في تحسين تجربة العبادة لأعداد كبيرة من الناس الذين يجدون صعوبة اليوم في أداء العمرة بسبب افتقاد التنظيم أو الخدمات المساندة، خصوصًا أولئك الذين تقدم بهم العمر، أو من يعانون من إعاقات حركية.
وفقًا لدراسات اقتصادية، يمكن لمثل هذه الشركات أن تخلق أكثر من 50 ألف وظيفة سنويًا خلال موسم العمرة، ما يعزز من قدرة الاقتصاد المحلي على تلبية احتياجات السوق بشكل فعال.
إضافة إلى ذلك، إذا تمت مراعاة احتياجات كبار السن والمعاقين عبر توفير خدمات مهنية ومتخصصة، ستتحسن جودة الحياة للكثيرين منهم، مما يعزز شعورهم بالراحة والطمأنينة. كما أن هذا النموذج من التنظيم سيعزز الانسيابية داخل الحرم، ويقلل من الزحام، ويُحسن من جودة الخدمات في المناطق المركزية.
اليوم، العمرة الفردية لم تعد خيارًا مناسبًا للجميع، بل أصبحت مرهقة للكثيرين. فمن غير المنطقي أن يُترك كبار السن يتنقلون بين الزحام، ويبحثون عن عربات أو من يساعدهم في الطواف والسعي وسط الحشود، في الوقت الذي نستطيع فيه تحويل هذه المعاناة إلى تجربة راقية وخاشعة، تليق بعظمة المكان والزمان. التنظيم الجيد لا يسهّل فقط أداء المناسك، بل أيضًا يعزز الانسيابية داخل الحرم، ويقلل من الزحام، ويرفع من جودة الخدمات في المناطق المركزية.
الفكرة قابلة للتنفيذ الفوري، وهي لا تتطلب أكثر من ترخيص وإشراف من وزارة الحج والعمرة، وتنسيق مع الجهات ذات العلاقة لتنظيم آلية دخول وخروج معتمري الداخل، أسوة بما يتم في مواسم الحج. ونحن لا نتحدث عن فكرة مثالية خيالية، بل عن ضرورة تنظيمية واجتماعية في ظل النمو السكاني، وتزايد أعداد المعتمرين سنويًا.
لكن الأثر الأكبر يكمن في خلق فرص العمل. هذه الشركات، التي ستتخصص في تقديم خدمات العمرة للمعتمرين المحليين، ستفتح المجال للعديد من الفرص الاقتصادية والوظائف الجديدة، خاصة في ظل ارتفاع الطلب على هذه الخدمات. ستكون هناك فرص عمل في عدة قطاعات؛ منها النقل، والتخطيط اللوجستي، وخدمات الضيافة، والعمالة المتخصصة في حجز وتنظيم طواف المعتمرين. كما سيتطلب ذلك زيادة في عدد الشركات المتخصصة في المعدات والخدمات المتعلقة بالعمرة، مما يشجع المنافسة في السوق ويؤدي إلى تحسين مستويات الخدمة وجودتها.
إضافة إلى ذلك، سيتمكن كبار السن والعجزة من الاستفادة من هذه الخدمات التي تهدف إلى توفير كافة احتياجاتهم، سواء كان ذلك في التنقل أو في التوجه إلى الأماكن المناسبة لهم داخل الحرم، مما يعزز شعورهم بالراحة والطمأنينة. مثل هذه المبادرة تخلق تكاملًا بين القطاع الخاص والحكومي، وتقدم الحلول المبتكرة التي لا تقتصر على المعتمرين الجدد بل تشمل جميع الفئات من مختلف الأعمال
إن تحويل تنظيم عمرة الداخل إلى نشاط يُدار باحترافية عبر شركات مرخصة، لا يعني أبداً تجارياً بحتاً، بل هو استثمار في راحة الإنسان وكرامته. فكما نجحنا في إدارة موسم العمرة والحج لمعتمري الخارج بكفاءة أبهرت العالم، نحن قادرون – بفتح المجال للقطاع الخاص المحلي – أن نقدم تجربة روحانية ومعيشية مميزة لمعتمري الداخل، تراعي ظروفهم وتلبي احتياجاتهم. هي فرصة لخلق وظائف، وتحسين مستوى الخدمات، وتخفيف الضغط عن الحرم، وجعل العمرة رحلة إيمانية هادئة لا مشقة فيها. فهل نبدأ من حيث يجب؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال