الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في مشهد صامت صادم، وثّقت عدسة أحد المارة لحظة سقوط رجل مسنّ عند مدخل مسجد، بعدما تعثّر بأحذية مبعثرة موضوعة بشكل عشوائي على الأرض، في غيابٍ تام للتنظيم والمراعاة. هذا المشهد لا يثير التعاطف فحسب، بل يفتح الباب لتساؤل جاد حول مدى التزامنا بأبسط مقومات السلامة في بيوت الله، وحجم الفجوة بين قدسية المكان وسلوك مرتاديه، وبين التنظيم المنشود والواقع القائم.
وقد عبّر اللواء الطيار الركن وعضو مجلس الشورى السابق عبدالله السعدون عن استيائه من هذه الحوادث المؤلمة، من خلال تغريدة مؤثرة وثّق فيها تفاصيل تلك الواقعة المؤسفة، حيث أدى سقوط الرجل إلى ارتجاج في المخ وكسر في الذراع، دخل على إثرهما في غيبوبة. وأوضح أن الحادث وقع نتيجة تصرف غير مسؤول من أحد المصلين، جاء ليؤدي عبادته، لكنه لم يأتِ بأخلاقها، إذ وضع حذاءه دون اعتبار للنظام أو لسلامة الآخرين. وتساءل مستنكرًا: كيف يمكن أن يتسبب من أتى للصلاة في أذى إخوانه المصلين؟
وفي ذات التغريدة، دعا إلى إطلاق حملة مجتمعية لا تتوقف حتى تختفي هذه الظاهرة من مساجدنا، تتضمن توفير المزيد من الأدراج المخصصة للأحذية، ووضع حاويات عند المداخل تُجمع فيها الأحذية الملقاة عشوائيًا في طريق المصلين. وأكد أن هذه الحملة ليست رفاهية تنظيمية، بل واجب ديني وأخلاقي يعكس كرامة المكان ووعي المجتمع.
ولعل هذا الحادث المؤسف لا يعكس فقط حالة فردية، بل يُسلّط الضوء على غياب بنية تنظيمية متكاملة في كثير من المساجد. إذ لا تزال مشاهد الأحذية المبعثرة عند المداخل تمثل صورة فوضوية لا تليق بحرمة المكان، تتسبب في اختناقات وعوائق جسدية، وتكشف عن ضعف الوعي والانضباط. كما تتكرر في عدد من المساجد التي تفتقر إلى أبسط مقومات التنظيم المكاني، وتتجلى آثار ذلك في الحوادث والإصابات، والضغط على مرافق الطوارئ، وتعطيل كبار السن والمرضى عن أداء عبادتهم بأمان. وهنا، يتجاوز الأمر البُعد الإنساني إلى أبعاد اجتماعية واقتصادية وتنموية.
ومن هذا المنطلق، فإن مسؤولية الجهات المعنية تتجاوز الإشراف الروتيني، لتصل إلى إعادة هيكلة شاملة في آلية إدارة المساجد. وتقع على عاتق وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد مسؤولية الإشراف على المساجد من حيث الصيانة والتجهيز والنظافة، وضبط مداخلها ومحيطها، بالإضافة إلى نشر الوعي بين مرتاديها. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الوزارة في هذا المجال، إلا أن التحديات الميدانية وتفاوت مستوى الالتزام بالمعايير التنظيمية تُحتم التفكير في حلول مؤسسية أكثر تخصصًا واستدامة.
وتبرز الحاجة هنا إلى دراسة إنشاء هيئة عامة مستقلة تُعنى بالعناية بالمساجد، تتولى المهام الإدارية والتشغيلية والرقابية، وتعمل وفق معايير موحدة تشمل جميع مساجد المملكة، باستثناء المسجد الحرام والمسجد النبوي. ويتيح هذا النموذج فصلًا مؤسسيًا واضحًا بين العمل الدعوي والإرشادي الذي تباشره الوزارة، والوظائف التشغيلية التي تضطلع بها الهيئة، بما يعزز الكفاءة، ويرفع من جودة الخدمات، ويكفل تحقيق معايير الأمن والسلامة دون تداخل في الصلاحيات أو ازدواجية في المهام، مع ضمان شمولية الخدمة واحترام التنوع المذهبي لرواد المساجد.
ويُعد النموذج الذي تمثله “الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي” تجربة وطنية رائدة أثبتت جدوى هذا التوجه، من خلال ما حققته من تكامل فريد بين التنظيم والقداسة، وكفاءة تشغيلية عالية دون أن تُمس جوهر الرسالة الدينية.
وتؤكد تجارب عدد من الهيئات الحكومية الأخرى – مثل هيئة النقل العام، وهيئة الطرق، وهيئة الطيران المدني – أن الفصل المؤسسي الوظيفي قادر على رفع كفاءة الأداء وضمان جودة التنفيذ، مع الحفاظ الكامل على الدور السيادي للدولة.
ويتطلب هذا التوجه إصدار تنظيم يُنشئ الهيئة بصلاحيات واضحة، تشمل إعداد اللوائح التشغيلية الموحدة، ووضع معايير الأمن والسلامة، وتقييم الأداء الميداني للمساجد، وتنظيم العلاقة مع الجهات الأخرى ذات الصلة بما يضمن التكامل المؤسسي والتوزيع الفعّال للمهام.
ويُستحسن أن يتضمن هيكل الهيئة مجلس إدارة يضم ممثلين من الوزارات ذات العلاقة، وخبراء في إدارة المرافق، وشخصيات من القطاع غير الربحي، بما يعزز تكامل الرؤية، ويرفع جودة التنفيذ، ويؤسس لبيئة مساءلة وشفافية. كما يُمكن للهيئة أن تُفعّل آليات الرقابة المجتمعية عبر منصة إلكترونية موحّدة تستقبل الشكاوى والمقترحات من رواد المساجد، وتتيح التفاعل المباشر مع الجهة التنظيمية.
ويمثل إشراك القطاع غير الربحي فرصة استراتيجية لتوسيع نطاق العناية بالمساجد وتخفيف العبء عن كاهل الدولة. وقد أثبتت جمعية العناية بالمساجد على الطرق فاعلية نموذج الشراكة المجتمعية، مما يشجع على تأسيس جمعيات أهلية تتولى مهام البناء والترميم والصيانة والنظافة والخدمة، تحت إشراف مرجعي منظم يضمن الالتزام بالمعايير. وتدعم مبادرات وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، هذا التوجه، من خلال تمكين القطاع الثالث ورفع مساهمته في الناتج المحلي، كأحد مستهدفات رؤية 2030.
ويمكن تعزيز الاستدامة المالية لهذا النموذج عبر تشجيع إنشاء أوقاف مخصصة لتمويل صيانة المساجد، وبرامج التوعية والتدريب، وآليات الرقابة، بما يمكّن الأفراد من الإسهام في رعاية بيوت الله بما يليق بحرمتها وكرامة مرتاديها، مع الحفاظ على الدور السيادي للدولة في التوجيه الديني.
وتزداد أهمية هذا التوجه في ضوء ما نصّت عليه المادة السابعة من نظام حقوق كبير السن (الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/47 بتاريخ 1443/6/3هـ)، والتي تؤكد على حق كبار السن في بيئة آمنة ومهيّأة تحفظ كرامتهم وسلامتهم في الأماكن العامة، ومنها المساجد. فمشهد سقوط أحد كبار السن نتيجة ضعف التنظيم لا يمثل مجرد حادث عرضي، بل يكشف عن قصور مؤسسي يستدعي تدخلًا تشريعيًا يضمن الالتزام بالواجبات النظامية تجاه هذه الفئة العزيزة التي تستحق الرعاية والتقدير.
كما يُفترض أن يشمل هذا التنظيم إشراك المتطوعين في تقديم الدعم الميداني وخدمات التنظيم والتوعية السلوكية داخل المساجد، لا سيما في المواسم وأوقات الذروة، ضمن إطار مهني منضبط، يضمن الكفاءة ويعزز التنوع والمشاركة المجتمعية.
وتؤكد التجارب الدولية جدوى هذا النموذج؛ ففي ماليزيا وتركيا، تتولى هيئات متخصصة الإشراف على إدارة المساجد، بينما يُسند الجانب الدعوي إلى وزارات الشؤون الدينية. أما في دول أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، فتخضع الكنائس والمعابد لإشراف إداري منظم، تشارك فيه منظمات غير ربحية ضمن أطر قانونية واضحة، ما أسهم في رفع كفاءة التشغيل وتعزيز احترام المجتمع لهذه الأماكن. وتثبت هذه النماذج أن الإدارة المؤسسية لا تتعارض مع قدسية أماكن العبادة، بل تصونها وتعزز من مكانتها.
والمسجد، باعتباره منارة للسكينة والهداية، يعكس وعي المجتمع ومدى احترامه للنظام، ويُعد معيارًا حضاريًا لمستوى الحوكمة المجتمعية.
وانطلاقًا من ذلك، يمكن تفعيل هذه الرؤية من خلال حزمة خطوات عملية، من أبرزها إلزام المساجد بتطبيق معايير الأمن والسلامة، وتوفير خزائن مغلقة لحفظ الأحذية، وتكثيف برامج التوعية السلوكية بلغات متعددة، وتدريب القائمين على الإرشاد المنضبط واللطيف، مع فتح المجال أمام المتطوعين لتقديم الدعم الميداني، لا سيما في أوقات الذروة والازدحام.
وفي الختام: إننا بحاجة إلى أن نُعامل بيوت الله بمستوى الحوكمة نفسه الذي نطالب به في سائر المرافق العامة. ومن خلال تأسيس هيئة مستقلة للعناية بالمساجد، نرسي نموذجًا وطنيًا متقدمًا يحفظ كرامة المصلين، ويصون قدسية المكان، ويرتقي بالإدارة إلى مستوى يليق بالمجتمع والدولة. فالمسجد ليس مجرد دار عبادة، بل مرفق عام يعكس عمق الحوكمة ومدى رُقي الوعي الحضاري. ويتسق هذا التوجه مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، لا سيما في محاور تعزيز جودة الحياة، وتطوير الفضاءات العامة، ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي. فالمساجد، بوصفها من أكثر المرافق العامة ارتيادًا، تستحق تنظيمًا يليق بمكانتها، ويكرّس مبدأ الشفافية والمساءلة في إدارتها، لتكون بيئة آمنة ومهيأة لجميع مرتاديها، وتعكس روح النظام وعمق الوعي المجتمعي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال