الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في واحدة من أكثر لحظات الاختبار حساسية لشبكات الطاقة الأوروبية، انهارت الشبكتان الإسبانية والبرتغالية نتيجة انفصال مفاجئ عن الشبكة الفرنسية ظهر يوم 28 إبريل، مما أدى إلى فقدان 15 جيجاواط من الطاقة خلال ثوان معدودة، وبينما لا تزال الأسباب التفصيلية لهذا الانقطاع قيد التحقيق، إلا أن تداعياته تثير تساؤلات استراتيجية تتجاوز الحادثة التقنية إلى صميم مستقبل الطاقة في أوروبا، والسؤال الذي لا يمكن تجاهله هنا: أين كانت مصادر الطاقة النظيفة أثناء الأزمة؟
ما حدث يبرهن على أن عمق الترابط بين شبكات الكهرباء الأوروبية يجعل أي اضطراب – مهما بدا محليا أو محدودا – قابلا للتحول إلى تأثير “دومينو” عابر للحدود، فتداعيات الحادثة لم تقتصر على إسبانيا والبرتغال، بل وصلت إلى فرنسا والمغرب، حيث أدى الاضطراب إلى انقطاع خدمات الإنترنت لساعات، مشيرا إلى هشاشة بنيات تحتية يُفترض أنها عماد الأمن القومي والاقتصادي.
على الرغم من استمرار بعض محطات الطاقة الشمسية والرياح والحرارية في العمل، إلا أن العجز الناتج عن غياب التوازن اللحظي بين العرض والطلب كشف محدودية هذه المصادر في مواجهة الاضطرابات الكبرى، فمصادر الطاقة المتجددة برغم أهميتها البيئية والاستراتيجية، لا تزال مقيدة بتقلبات الطبيعة، ومع غياب آليات تخزين واسعة النطاق أو نظم تحكم مرنة، تصبح غير قادرة على تأمين شبكة مستقرة في اللحظات الحرجة.
هنا، تتجلى أهمية مصادر الطاقة التقليدية، ولا سيما الغاز الطبيعي والطاقة النووية، كدعائم أساسية للاستقرار الشبكي، فهذه المصادر – رغم الانتقادات البيئية الموجهة لها – تملك ميزة الاستمرارية والتحكم الدقيق بالإنتاج، وهذا يجعلها ضرورة لا غنى عنها في أي مرحلة انتقالية نحو الطاقة النظيفة، ومن دون حضور فاعل للمصادر التقليدية، يصبح الحديث عن أمن الطاقة مجرد أمنيات لا تصمد أمام اختبار الواقع.
إلى جانب الإخفاق التقني، تبرز مخاوف الهجمات السيبرانية كعامل تهديد حقيقي، فقد أظهرت هجمات سابقة، مثل الهجوم السيبراني على شبكة “Colonial Pipeline” الأميركية عام 2021، قلق مزعج للسوق على امدادات المحروقات، فاختراق شبكات الطاقة لا يؤدي فقط إلى عتمة مؤقتة، بل يشل قطاعات حيوية بأكملها، من النقل إلى الاتصالات إلى الرعاية الصحية، ومع تزايد الاعتماد على الأنظمة الذكية والتحكم الرقمي، تصبح شبكات الكهرباء أهدافا مغرية للجهات التخريبية، مما يجعل حماية البنى التحتية الرقمية جزء لا يتجزأ من أمن الطاقة.
ما حدث بالأمس ليس مجرد حادث تقني عابر، بل إنذار مبكر، فمسار تحول مصادر الطاقة يجب أن يقترن بواقعية استراتيجية، من تعزيز للاستثمارات في تخزين الطاقة، والتحكم الذكي بالشبكات، إلى الحفاظ على مصادر الطاقة التقليدية كضمان لاستقرار الفترات الانتقالية، وبتكاملية مع رفع مستوى الحماية السيبرانية وتعزيز جاهزية شبكات الطاقة للهجمات، وكل هذا بجانب توسيع وتقوية وصلات الربط الكهربائي بين الدول مع خطط طوارئ واضحة.
في عالمنا اليوم المعقد والمترابط، لا يكفي أن نحلم بمستقبل نظيف، بل يجب أن نبنيه على أسس صلبة قادرة على مواجهة المفاجآت والصدمات، لأن ما يسمى بمصادر الطاقة النظيفة وحدها لا تضمن تواجد مدنا مضاءة، بل لا تضمن استقرار الحياة المتمدنة في حد ذاتها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال