الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُقدَّم مفهوم “استقلالية البنك المركزي” في الخطابين الاقتصادي والإعلامي باعتباره مبدأً أساسياً، تقوم بموجبه المؤسسات النقدية، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي، بالعمل بمعزل تام عن الحكومة الفيدرالية، وخاصة عن وزارة الخزانة الأمريكية. وغالبًا ما يُصوَّر الفيدرالي كهيئة محايدة لا تتلقى تعليمات من الرئيس أو الكونغرس، وتُنفذ سياساتها بمعايير فنية لتحقيق أهداف مثل استقرار الأسعار والتوظيف الكامل. لكن هذا التصور، رغم استقراره في الأدبيات الاقتصادية السائدة، أصبح محل مراجعة وانتقاد، خصوصًا بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى خلال العقود الأخيرة — من الأزمة المالية عام 2008، إلى جائحة كوفيد-19، ثم موجة التضخم في عام 2022. إذ بدا واضحًا أن كلما اضطرت الحكومة إلى تدخل مالي كبير، تحرّك الفيدرالي بالتوازي معها، مما يثير تساؤلًا جوهريًا: هل يمكن فعلًا فصل السياسة النقدية عن السياسة المالية في الممارسة العملية؟
وفقًا لاقتصاديين بارزين مثل لورانس راي (L. Randall Wray)، وستيفاني كيلتون (Stephanie Kelton)، وكريستين ديسان (Christine Desan)، فإن الحديث عن استقلالية تشغيلية مطلقة للبنك المركزي هو تبسيط مخلّ بالواقع المؤسسي. وبينما يتمتع الاحتياطي الفيدرالي باستقلال قانوني في اتخاذ قراراته، فإن الواقع العملي يكشف عن ترابط عميق مع وزارة الخزانة، يتجلى بوضوح في الإدارة اليومية للسيولة العامة وتدفقات الأموال بين الحكومة والنظام المصرفي. هذا الترابط لا يقتصر على الأزمات، بل يتغيّر طبيعته حسب النظام النقدي المعتمد. فمنذ الثمانينيات، انتقلت الولايات المتحدة بين ثلاثة أطر تشغيلية رئيسية في إدارة الاحتياطيات، كشفت جميعها عن أشكال مختلفة من هذا التنسيق.
في النظام الأول، المعروف باسم “نظام الندرة” (Corridor System)، والذي استُخدم حتى عام 2008، كانت مستويات الاحتياطيات منخفضة، وكان على البنوك الاعتماد على تدخلات يومية من الاحتياطي الفيدرالي عبر عمليات السوق المفتوحة لضبط سعر الفائدة. أي تغيّر في تدفقات وزارة الخزانة — سواء من خلال جمع الضرائب أو الإنفاق — كان كافيًا لهزّ استقرار السوق النقدي، ما كان يتطلب تنسيقًا مستمرًا بين الجهتين.
أما بعد الأزمة المالية العالمية، فقد انتقل النظام إلى ما يُعرف بـ”نظام الاحتياطيات الوفيرة (Abundant Reserves System)، حيث ضخّ الفيدرالي كميات هائلة من السيولة في البنوك من خلال برامج التيسير الكمي .هذا وفر غطاء احتياطيات واسع، قلّل من التأثير الفوري لتدفقات الخزانة، لكنه لم يُلغِ الحاجة إلى التنسيق، كما أظهرت أزمة سبتمبر 2019 عندما أدت تحصيلات ضريبية كبيرة إلى نقص مفاجئ في السيولة وارتفاع مفاجئ في سعر الفائدة لليلة واحدة.
أما النظام الحالي، المطبق منذ عام 2022، فيُعرف بـ”نظام الاحتياطيات الكافية” (Ample Reserves System). وفيه يتم الحفاظ على مستوى مريح من الاحتياطيات، دون أن يُغني ذلك عن مراقبة التدفقات الحكومية والتدخل حسب الحاجة، باستخدام أدوات مثل إعادة الشراء أو التحكم في الفائدة على الاحتياطيات.
الاستقلال القانوني للبنك المركزي يبقى ضرورة لضمان مصداقيته وثقة الأسواق، لكن لا يمكن فهمه كاستقلال مطلق عن الحكومة، بل كاستقلال نسبي يعمل ضمن شبكة من العلاقات التشغيلية. العلاقة بين الفيدرالي والخزانة الأمريكية هي شراكة مؤسسية تحكمها القواعد، لكنها تعتمد على التنسيق العملي اليومي للحفاظ على استقرار النظام المالي. وبينما يجب حماية البنك المركزي من التدخل السياسي الفج، فإن تجاهل الطبيعة التفاعلية لعلاقته بالحكومة يُفضي إلى صورة مثالية غير دقيقة. في النهاية، الاستقلال ليس شعارًا، بل أداة قابلة للتكيّف في خدمة هدف أسمى: الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي ضمن نظام اقتصادي معقّد ومتغير.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال