الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع تزايد هشاشة الاعتماد الأحادي على الصين، وتعثر بيئات الإنتاج في أوروبا، وتصاعد المخاوف من اضطرابات غير متوقعة في شرق آسيا، بدأت مراكز الثقل الصناعي الغربية مراجعة جادة لمتموضعاتها، فقد تحولت سلاسل التوريد إلى رهائن لاعتبارات متعددة، وفي مقدمتها الجيوسياسية، لتتقدم المملكة العربية السعودية كخيار جيواقتصادي عقلاني يدعم إعادة توزيع المخاطر دون انزلاق إلى توترات جديدة، وضمن هذا التحول، يتساءل كثير من الفاعلين الصناعيين في الغرب: هل يمكن بناء قدرة إنتاجية مستقلة خلال العقد المقبل دون المرور عبر الرياض؟
من هذا المنظور، تكون زيارة الرئيس الأميركي “دونالد ترمب” إلى الرياض ذات بعدين. يتضح من البعد الأول أن الولايات المتحدة — الدولة التي وضعت أسس الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية عبر أدوات مثل “بريتون وودز”، وخطة “مارشال”، ومؤسسات التمويل الدولية — تعيد اليوم تشكيل المنظومة ذاتها، بمواقع مختلفة وربما بأدوات مختلفة أيضا، فالمعادلة لم تعد قائمة على مراكز النفوذ التقليدية، بل على خلق ممرات نفوذ جديدة قائمة على الندية، والمشاركة، والكفاءة التشغيلية.
أما البعد الثاني فمن خلال توفر إشارات معتبرة على وعي استثماري متنام لدى النخبة الاقتصادية الأمريكية بأهمية المملكة كعقدة صناعية سيادية في المنظومة العالمية القادمة، فالحضور الرفيع من قادة التقنية والصناعة والتمويل يعكس إدراكا متقدما لدورها في تأمين مواقع إنتاج استراتيجية تقلص انكشاف الغرب خاصة على الصين، ودون الوقوع في صدام مباشر معها.
في مرحلة ما بعد العولمة التقليدية، لم يعد الشريك المثالي هو الأرخص أو الأقرب، بل الأكثر قدرة على تأمين ثلاثية الاستقرار السيادي، والسيولة الاستثمارية طويلة الأجل، والرؤية الاقتصادية التي لا تتراجع أمام الضغط الجيوسياسي، ومنذ إطلاق مسار التحول الوطني في 2016، رسخت المملكة موقعها كبنية تشغيل سيادية قادرة على استيعاب الصناعات ذات الحساسية الاستراتيجية، من الطاقة المتجددة إلى أشباه الموصلات، ومن المعادن النادرة إلى الذكاء الاصطناعي.
هذا التحول لا يقرأ فقط من خلال المؤشرات الاستثمارية، بل يلمس في سلوك الكيانات الصناعية الكبرى، التي باتت ترى بجدية أن المملكة – بفضل بنيتها التحتية المتسارعة، ومظلتها التنظيمية المتطورة والمستقرة – أصبحت موقعا قابلا لتقليل الاعتماد على بيئات مشبعة بالضغوط مثل شرق آسيا، أو مثقلة بالبيروقراطية مثل الاتحاد الأوروبي.
هنا، المملكة لا تقدم فقط موقعا جغرافيا مثاليا، بل تطرح منصة سيادية متزنة، تتيح للغرب الصناعي نقل بعض سلاسله الحيوية إلى فضاء لا يشكل تهديدا سياديا، ولا يُسخّر الجغرافيا لأجندة أيديولوجية عابرة للحدود، وهذا هو الفارق المحوري في الرؤية الجديدة للمملكة إذ إنها ليست منصة بديلة من داخل النظام الأميركي، بل منصة مساندة لإعادة هيكلة النظام ذاته.
الجغرافيا مهمة للتحالفات الصناعية، ولكن الصناعات ذات الحساسية الاستراتيجية تحتاج مواقع قادرة على ضمان التدفق المستقر لرأس المال، والتقنية، والتنظيم، وتظهر المملكة العربية السعودية في هذه اللحظة كعقدة توازن جديدة في اقتصاد عالمي متعدد المحاور، تقدم نموذج سيادي متزن ومتاح، وقادر على استقبال الاستثمارات ثقيلة الوزن بعيدا عن التوترات الجيوسياسية في شرق آسيا، وتنامي تكلفة الإنتاج داخل أوروبا، وفي ظل تصاعد روح الاستقلالية في الصناعة التي تركز عليها “واشنطن”، تصبح المملكة نقطة انطلاق منطقية لصياغة جيل جديد من التحالفات الصناعية التي تُنتج القيمة، لا تستهلكها فقط.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال