الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ورد في كتاب “ميكانيكا التربة القائمة على الأنظمة الديناميكية” مقالا تحت عنوان: “هل التربة هي حقا من المعادن؟”. حيث ناقش الكاتب فكرة أساسية ألا وهي ضرورة حصول نوع من الاحتكاك الفيزيائي بين الباحث والمادة التي يقوم بدراستها. ويتابع : “عام 1980 كان أول سؤال وجهته لأستاذي في ميكانيك التربة: “لماذا تُنمذج التربة كمعدن؟ “..كنت ألاحظ دائما شكل بودرة المعادن وقد لاحظت أشكالا مختلفة من جزيئات الحديد بدون مجهر، وقد أجابني أحد الأساتذة قائلا: “ربما بسبب عدم وجود نظرية بديلة حنى اليوم”. ويُضيف كاتب المقال: “اليوم أدركت أهمية الاتصال الجسدي المباشر بين الإنسان الباحث والمادة أو المشكلة التي يتعامل معها، لأن الفاعل وحده هو الذي يتعلّم كما يقال”.
ما ورد ذكره سابقا لا يُعبّر عن فكرة ميكانيكية حول ضرورة احتكاك الباحث بما يقوم بدراسته فقط، وإنما يمكن التعامل معه بشكل أكثر اتساعا يصل إلى ضرورة احتكاك الباحث مع مشكلة واقعية، كي يقوم بمعالجتها بأسلوب علمي، وهو ما يضمن احتكاك الباحث مع المشكلة فيزيائيا أيضا بما يكرّس فهما أعمق. وهنا لا أستطيع إلا ان أستذكر ما قاله لي أستاذي المشرف عندما بدأت بحثي في الدكتوراه: “ما تقومين به من بحث هو مساهمتك التي تقدمينها إلى العالم، من خلال معالجة ما يعانيه العالم من مشاكل بطريقة علمية”.
حقيقة كتبت ما كتبته في المقدمة كي أمهّد للحديث حول فكرة تم التطرق إليها مرارا، ألا وهي ضرورة الربط بين عمل الشركات والجامعات لترسيخ واقعية العمل البحثي. فكثير هو الكلام الذي ورد سابقا حول إقامة تعاون علمي بين الجامعات والشركات، وذلك من أجل غايات متعددة من أهمها معالجة المشاكل الواقعية بطريقة علمية وبحثية، إلا أنه وحتى اليوم لم يحدث أي نوع من الربط الحقيقي بين الجانبين بشكل كاف، بما يمكّن من حل مشاكل الواقع بأسس علمية. يمكن اعتبار التجربة الصينية في هذا المجال من التجارب المميزة والتي من المهم تسليط الضوء عليها.
كمثال مبسط حول التعاون بين الشركات والجامعات، هو ما حصل من تعاون بين شركة لمترو الأنفاق وجامعتنا. إذ كانت تواجه الشركة عدة مشاكل على أرض الواقع، فما كان منها إلا أن تواصلت مع إحدى الفرق البحثية المختصة بمجال الهندسة الجيوتكنيكة، وذلك من أجل معرفة أسباب تلك المشاكل. وقد تم وضع عدة نقاط رئيسية كانت بمثابة عوائق لاستمرار العمل. وتضمنت كل مشكلة رئيسية عدة نقاط فرعية قد يكون بحثها بمثابة ضرورة من وجهة نظر الشركة. تم نقاش كل التفاصيل الواردة بما فيها الفريق الذي سيقوم بالتنفيذ، لا سيما وأنه في حالة الأبحاث لا بد من أن يكون الفريق الذي يتولّى مهمة دراسة فكرة معينة قد سبق له وقام بتنفيذ فكرة مشابهة لها، كي يكون التنفيذ أسهل وبما يُمكّن من تحقيق اختراق ابتكاري في الفكرة المطروحة.
في تصريح إعلامي يقول أحد مدراء شركة “هواوي”: “لحل مشكلة الرقائق، لا يمكنك إنفاق الأموال عليها فحسب. عليك أن تنفق على علماء الرياضيات والفيزياء”. والرقائق لمن لا يعرف هي المعضلة التكنولوجية التي يتم التنافس عليها بين الصين وأمريكا. ونتيجة لذلك تقوم شركة هواوي بإنفاق الكثير من الأموال على البحث العلمي. وهذا مثال واضح على الرؤية الصينية فيما يتعلق بالتعاون ما بين الجامعات والشركات. إذ أنّ الأمر ليس عبارة عن مجرّد شعارات يتم رفعها في الندوات واللقاءات الإعلامية بل هو تعاون فعلي يجري على أرض الواقع. كما لا بد من ذكر أنه اليوم ومع دخول الصين في مرحلة “التنمية عالية الجودة” أصبح الابتكار مطلبا أساسيا في الأبحاث العلمية، إذ لم يعد من المهم أن يستند البحث إلى ماهو جديد بقدر ماهو مهم أن يتضمن نقاط ابتكار سواء في الطريقة المتبعة للتحليل أو في حداثة أو جدة النتائج .
ولا بد من الإشارة إلى أن الجامعات قد لا تمتلك الموارد المالية التي تمتلكها الشركات، وفي الوقت ذاته لا تمتلك الشركات المواهب العلمية التي تمتلكها الجامعات، وبالتالي فإن التعاون بين الجانبين يعتبر تعاونا تكامليا. وإذا أردنا التحدث بشكل أوضح وبالعودة إلى الهندسة المدنية، فإنّ معظم الشركات التي تقوم بتنفيذ أعمال على أرض الواقع لا تملك من الوقت ما يجعلها قادرة على تقصّي شروط مختلفة للحالة ذاتها بغية الوصول إلى نتائج يمكن تعميمها على حالات مشابهة ضمن ظروفف معينة.
ترد في الأخبار الصينية عبارة توصّف أهمية التطبيق العملي، والانتقال بالمشاريع من حيز التفكير إلى حيز التنفيذ، تظهر الترجمة الحرفية لهذه العبارة المعنى التالي: “إسقاط الواقع على الأرض”، إلا أن المعنى الفعلي هو “التطبيق”، وهو ما لا يمكن أن يحدث في إطار المجالين المهني والعلمي بدون تعاون فعلي بين الجامعات والشركات لما لهذا الأمر من أهمية عملية وواقعية. هذا بالإضافة إلى أن تلك الفكرة تنطوي على أمر جوهري ألا وهو إن لم يعالج الموضوع قيد البحث مشاكل موجودة واقعية تخدم الإنسان وتساهم في تسهيل حياته فهو غالبا بحث منفصل عن الواقع سيوضع على رفوف المكتبات الجامعية، وفي أحسن الأحوال سيُنفض عنه الغبار بين الحين والآخر.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال