الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يعكس أداء ميزانية المملكة العربية السعودية خلال الربع الأول من السنة المالية 2025 استمرار الجهود لتحقيق التوازن بين الانضباط المالي والإنفاق التنموي في ظل تقلبات إيرادات النفط. ووفقًا لتقرير وزارة المالية، بلغت الإيرادات الإجمالية 263.6 مليار ريال، بينما بلغت المصروفات 322.3 مليار ريال، ما أدى إلى تسجيل عجز مالي قدره 58.7 مليار ريال خلال هذا الربع. وتكتسب هذه النتائج أهمية خاصة في سياق تذبذب أسعار النفط العالمية والتعديلات الاقتصادية الداخلية. ورغم أن هذا العجز يعد متواضعاً مقارنة بالسنوات السابقة، إلا أنه يعكس تحديات الموازنة بين برامج الإنفاق الطموحة وتقلبات الإيرادات النفطية التي انخفضت بنسبة 18% على أساس سنوي إلى 149.8 مليار ريال. وبينما يشير نمو الإيرادات غير النفطية بنسبة 2% المدعوم بالضرائب على السلع والخدمات والدخل إلى تقدم تدريجي نحو أهداف رؤية 2030، إلا أن الاعتماد على النفط لا يزال واضحاً، حيث يشكل 56.8% من إجمالي الإيرادات، (الرسم البياني رقم1)
الرسم البياني رقم 1: تطورات الميزان المالي (2018- 2025)
لقد سجلت المملكة في الربع الأول من عام 2025 إيرادات إجمالية قدرها 263.6 مليار ريال، بانخفاض نسبته 10% مقارنة بـ 293.4 مليار ريال في الربع الأول من عام 2024. ويُعزى هذا الانخفاض بشكل رئيسي إلى تراجع الإيرادات النفطية، التي بلغت 149.8 مليار ريال مقارنة بـ 181.9 مليار ريال في الفترة نفسها من العام السابق، بانخفاض سنوي قدره 18%. وتعكس هذه التراجعات الانخفاض في أسعار النفط وصادراته، رغم تعديلات إنتاج أوبك+. في المقابل، ارتفعت الإيرادات غير النفطية بشكل طفيف بنسبة 2%، لتصل إلى 113.8 مليار ريال، ما يشير إلى فعالية استراتيجيات تنويع الإيرادات، وإن ظلت محدودة مقارنة بحجم الاعتماد على النفط. وتعكس الفترة التي تلت الربع الثاني من عام 2022 بعد تحقيق فائض بنحو 77.9 مليار ريال تراجعاً في الفوائض واتساعاً في العجوزات، مما يشير إلى اتساع الفجوة بين الإنفاق والدخل، رغم استقرار نسبي في الإيرادات غير النفطية. وتشير العجوزات المستمرة في الفصول الأخيرة إلى الحاجة لإصلاحات مالية تعزز الاستدامة وتقلل الاعتماد على الإيرادات النفطية.
يعكس الانخفاض الحاد في الإيرادات النفطية خلال الربع الأول من عام 2025 تطورات السوق العالمية للطاقة، فقد بلغ متوسط سعر خام برنت نحو 78 دولارًا للبرميل خلال هذه الفترة، مقارنة بـ 84 دولارًا في الربع الأول من عام 2024. ويُعزى هذا الانخفاض إلى ارتفاع المعروض من خارج أوبك، وتباطؤ الطلب العالمي خاصة في الصين، واستمرار حالة عدم اليقين في الاقتصادات المتقدمة. وعلى الرغم من التزام المملكة بسياسات أوبك+ لإدارة الإنتاج، فإن سعر النفط اللازم لتحقيق التوازن المالي لا يزال أعلى من المتوسطات السوقية. وتظهر البيانات أن سعر تعادل النفط اللازم للموازنة في المملكة العربية السعودية يبلغ 94.5 دولاراً للبرميل، وهو أعلى بكثير من كلٍ من السعر الحالي لخام برنت (حوالي 77 دولاراً) ومتوسطه لعشر سنوات (حوالي 70 دولاراً). وتعكس هذه الفجوة تحدياً مالياً جوهرياً للمملكة، حيث يشير ذلك إلى أن الحفاظ على التوازن المالي يتطلب إما استمرار أسعار النفط عند مستويات مرتفعة تتجاوز الواقع السوقي، أو اللجوء إلى تعزيز الانضباط المالي، ومواصلة الإصلاحات الهيكلية لتقليل مخاطر العجوزات المتكررة في ظل تقلبات الأسواق النفطية، (الرسم البياني رقم 2).
الرسم البياني رقم 2: سعر توازن النفط للميزانية العامة
بالتوازي مع تطورات سوق النفط والتحديات التي يفرضها ارتفاع سعر توازن النفط للميزانية العامة، تبرز الإيرادات غير النفطية كمحور أساسي في استراتيجية المملكة لتعزيز الصلابة المالية وتقليل الاعتماد على العائدات النفطية، إذ تشير البيانات عن نمو طفيف في الإيرادات غير النفطية، التي بلغت 113.8 مليار ريال خلال الربع الأول من عام 2025. وقد شكلت الضرائب على السلع والخدمات النصيب الأكبر، حيث بلغت 71.6 مليار ريال بزيادة 2.3% عن العام السابق. كما سجلت الضرائب على الدخل والأرباح 6.7 مليار ريال، بزيادة مماثلة. أما “الضرائب الأخرى”، التي تشمل الزكاة، فقد ارتفعت بنسبة كبيرة بلغت 24% لتصل إلى 4.6 مليار ريال، مما يعكس تحسنًا في الامتثال والجباية. في المقابل، انخفضت الضرائب على التجارة والمعاملات الدولية بنسبة 8% لتصل إلى 5.6 مليار ريال، ما قد يشير إلى تباطؤ النشاط الاستيرادي. ويعكس هذا التحول تحسنًا تدريجيًا في الإيرادات غير النفطية، لكنه لا يزال دون المستوى المطلوب لتحقيق أهداف التنويع المالي طويلة الأجل، حيث أظهرت السياسات الضريبية – مثل ضريبة القيمة المضافة وضرائب الشركات – محدودية في قابلية التوسع.
وفي جانب المصروفات، بلغ إجمالي الإنفاق الحكومي في الربع الأول من عام 2025 نحو 322.3 مليار ريال، بزيادة نسبتها 5% مقارنة بـ 305.8 مليار ريال في نفس الفترة من 2024. وقد استحوذت تعويضات العاملين على النسبة الأكبر من الإنفاق، حيث ارتفعت بنسبة 6% لتبلغ 146.1 مليار ريال، أي ما يزيد عن 45% من إجمالي الإنفاق. كما ارتفعت المنافع الاجتماعية بنسبة 28% لتصل إلى 30.5 مليار ريال، مما يعكس توسع البرامج الاجتماعية وزيادة مصروفات التقاعد. كذلك، سجل الإنفاق على السلع والخدمات ارتفاعًا بنسبة 6% ليبلغ 64.6 مليار ريال، بينما ارتفعت نفقات التمويل بنسبة 23% لتصل إلى 12.4 مليار ريال بسبب زيادة الدين وارتفاع أسعار الفائدة. وفي المقابل، انخفض الإنفاق الرأسمالي بنسبة 19% ليبلغ 27.8 مليار ريال، ما قد يشير إلى تأجيل بعض المشاريع الكبرى.
وفي إطار تحليل هيكل الإنفاق العام خلال الربع الأول من عام 2025، تبرز ملامح أولويات الحكومة في توزيع الموارد المالية، بما يعكس التوجهات الاستراتيجية والتنموية الحالية، حيث أظهرت البيانات أن قطاع الصحة والتنمية الاجتماعية استحوذ على 19% من إجمالي الإنفاق، بواقع 60.5 مليار ريال، بزيادة قدرها 16% عن الربع الأول من العام السابق. كما بلغ الإنفاق على التعليم 51.6 مليار ريال، بينما بلغت مصروفات القطاعين العسكري والأمني مجتمعين حوالي 79.4 مليار ريال، مما يعكس استمرار التركيز على الأمن والدفاع. أما القطاعات الاقتصادية مثل النقل والطاقة، فقد سجلت نتائج متفاوتة؛ فبينما ارتفع الإنفاق على البنية التحتية والنقل بنسبة 4% ليبلغ 9.6 مليار ريال، انخفض الإنفاق على قطاع الموارد الاقتصادية بنسبة 2%. وتدل هذه الأرقام على توجه الحكومة نحو تعزيز الإنفاق الاجتماعي مع التريث في التوسع في المشاريع الاقتصادية. غير إن الزيادة العامة في الإنفاق بنسبة 5% مقارنة بالربع الأول من عام 2024 تُسلّط الضوء على أهمية التوازن بين متطلبات النمو الاقتصادي وضرورات الحفاظ على استدامة المالية العامة، خاصة في ظل الاتجاه التصاعدي للدين العام، مما يستدعي تعزيز كفاءة الإنفاق وتوسيع الإيرادات غير النفطية لضمان استقرار الأوضاع المالية على المدى المتوسط والطويل
وفي سياق تحليل الأداء المالي للفترة ذاتها، يبرز استمرار العجز المالي الذي بلغ في الربع الأول من عام 2025 نحو 58.7 مليار ريال، وهو ما يمثل تراجعًا مقارنةً بفوائض سابقة أبرزها فائض الربع الثاني لعام 2022. ويُعزى هذا التحول إلى اتساع الفجوة بين الإنفاق المتصاعد والإيرادات المستقرة نسبيًا. ويمثل هذا العجز تحديًا أمام استدامة المالية العامة، خاصة مع اعتماد تمويله على أدوات الدين بدلاً من السحب من الاحتياطيات، في ظل محافظة المملكة على تصنيف ائتماني سيادي قوي. ويعكس ذلك ضرورة تعزيز الإيرادات غير النفطية وتحقيق كفاءة أعلى في الإنفاق لمواجهة المخاطر المستقبلية. وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية تُبقي على الاحتياطيات دون مساس، إلا أنها ترفع أعباء خدمة الدين مستقبلاً. و في حين يشير ذلك إلى ثقة الحكومة في قدرتها على النفاذ إلى الأسواق المالية، لكنه في الوقت ذاته يستدعي مراجعة دائمة لحدود الاقتراض وإدارته.
وفي ظل استمرار تسجيل العجز المالي، تبرز مسألة الدين العام كمكون محوري في تمويل الميزانية وتحدٍ متزايد أمام صناع القرار في المملكة، فقد ارتفع إجمالي الدين العام إلى نحو 1.33 تريليون ريال بنهاية الربع الأول من عام 2025، مقارنة بـ1.22 تريليون ريال في بداية الفترة، موزعًا بين 60% دين داخلي و40% دين خارجي. وتُظهر البيانات مساراً تصاعدياً ملحوظاً منذ عام 2015، بعد أن كان الدين العام لا يتجاوز 1.54% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2014، ليصل إلى 30% في عام 2024 وفقاً للتقديرات. ويعكس هذا الارتفاع المتواصل تنامي الاعتماد على أدوات الدين لتمويل النفقات العامة، في ظل طموحات تنموية كبيرة، مما يتطلب تعزيز كفاءة إدارة الدين وتوسيع قاعدة الإيرادات. وبينما يوفر الدين الداخلي ميزة تقليل المخاطر المرتبطة بسعر الصرف، إلا أن استمرارية الاعتماد عليه قد تفرض ضغوطاً على السيولة المحلية وتحد من مرونة السياسة النقدية. كما أن ارتفاع حجم الدين يرفع من أعباء خدمته ويزيد من حساسية المالية العامة تجاه تغيرات أسعار الفائدة، ما يستدعي المواءمة الدقيقة بين التوسع المالي والاستدامة على المدى الطويل لضمان الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وثقة المستثمرين، (الرسم البياني رقم 3).
الرسم البياني رقم 3: تطورات الدين العام ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال