الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، حيث تتراجع أدوار بعض القوى التقليدية وتبرز أخرى على أنقاض المعادلات القديمة، تبدو المملكة العربية السعودية وكأنها لا تكتفي بمواكبة التحول، بل تسعى إلى صياغته من الداخل، وفق رؤية تتجاوز اللحظة الاقتصادية إلى مشروع سيادي يعيد تعريف مفاهيم النفوذ والقيادة. لم تعد الرياض تتعامل مع الشراكات الدولية بوصفها امتدادًا لتحالفات سابقة أو رهانات ظرفية، بل كمنصة لصياغة خرائط جديدة للقوة، تنطلق من الداخل السعودي نحو العالم، محمولة على أدوات الاستثمار والتقنية والتحالف الاستراتيجي المستقل.
لقد أصبح واضحًا أن المملكة، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لا تتحرك داخل الفضاء الاقتصادي العالمي بوصفها تابعًا، بل بصفتها طرفًا مؤثّرًا يعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والأسواق، وبين الثروة والحوكمة، وبين الجغرافيا والسيادة. ومع كل خطوة استراتيجية، من إطلاق مشاريع عملاقة إلى إعادة توجيه رأس المال السيادي، تترسّخ ملامح نموذج سعودي جديد، لا يراهن فقط على الأرقام، بل على بناء تموضع نوعي في النظام العالمي يعيد توزيع مراكز القرار.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الرياض، وما صاحبها من لقاءات وصفقات، كمشهد يعكس هذا التحول النوعي. لكنها لم تكن الحدث بحد ذاته، بل كانت مناسبة كاشفة لمرحلة أكثر عمقًا: مرحلة تصنع فيها المملكة تحالفاتها لا على أساس المجاملة السياسية، بل على قاعدة المصالح السيادية والجرأة في ابتكار النموذج. من هنا، تبدأ قراءة جديدة لمكانة السعودية في العالم، ليس كدولة نفطية أو سوق استهلاكي، بل كعاصمة قرار، تعيد رسم خرائط العلاقات الدولية من منظور استثماري وتنموي وسيادي جديد.
لم تكن الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الرياض مجرد محطة بروتوكولية أو مناسبة دبلوماسية عابرة، بل كانت إعلانًا صريحًا عن دخول المملكة العربية السعودية مرحلة جديدة من حضورها الدولي؛ مرحلة تجاوزت فيها دور الحليف التقليدي لتؤدي دور القوة الاستثمارية المستقلة، التي تعيد توزيع مراكز الثقل العالمي، وتبني معادلاتها الاقتصادية وفق مصالحها الوطنية وشروطها السيادية.
المشهد الذي تابعه العالم لم يكن محصورًا في شخصية ترامب، بل في من رافقه من قادة كبرى الشركات الأمريكية، من إيلون ماسك إلى سام ألتمان، ومن رؤساء NVIDIA وAmazon وGoogle وOracle وOpenAI. شركات تتجاوز قيمتها السوقية سبعة تريليونات دولار لم تأتِ إلى الرياض للاستعراض، بل لتوقيع الشراكات والانخراط الفعلي في مشروع استثماري متكامل مع دولة لم تعد تنتظر المبادرات، بل تبادر وتصوغ موازين جديدة للتأثير.
في منتدى الاستثمار السعودي – الأمريكي، لم تكن الكلمات مجاملات، بل كانت وقائع. أعلن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن شراكات واستثمارات تتجاوز قيمتها 300 مليار دولار، ضمن خطة طموحة تستهدف الوصول إلى 600 مليار دولار، ثم إلى تريليون دولار في المرحلة التالية. وجاءت هذه الأرقام مصحوبة باتفاقيات فعلية، منها صفقة تسليح تاريخية بقيمة 142 مليار دولار، تُعد الأكبر في تاريخ مبيعات الأسلحة الأمريكية، واستثمارات تقنية ضخمة في الذكاء الاصطناعي والطاقة والتصنيع.
الجلسات لم تكن أقل أهمية من الاتفاقيات، بل كانت مرآة لتحول المملكة من دولة مستقبلة للنماذج إلى دولة تصنع نماذجها الخاصة. تحدث وزير الاستثمار خالد الفالح بثقة عن أن السعودية لا تسعى لجذب الاستثمارات فحسب، بل لإعادة تعريف موازينها العالمية. أما وزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم، فرأى أن التحول الجاري في المملكة هو أكبر من مجرد نمو اقتصادي، بل مشروع سيادي يُعاد فيه هندسة العلاقة بين الدولة والسوق، وبين الداخل والخارج، على أسس استباقية شاملة.
إيلون ماسك قالها بوضوح: “السعودية أصبحت المكان الأنسب لاختبار أفكار كان يُعتقد أنها ستحتاج عقودًا لتنفيذها.” واعتبر أن المملكة باتت مسرحًا تقنيًا مفتوحًا يُمكّن من إعادة تصور المستقبل في مجالات النقل والطاقة والذكاء الصناعي. أما سام ألتمان من OpenAI، فقد رأى أن سرعة التحول الرقمي في السعودية فاقت كل التوقعات، وأن ما يجري من شراكات استراتيجية ليس فقط في نقل التقنية، بل في صناعتها، هو ما سيُعيد رسم خارطة القوى الذكية عالميًا.
وفي هذا السياق، كانت بطولة كأس العالم 2034 عنوانًا رمزيًا لتحول الرياض من “مستضيف” إلى “مُصمم للحدث”. تحدث رئيس الفيفا جياني إنفانتينو عن أن البطولة لن تكون مجرد مناسبة رياضية، بل نقطة ارتكاز لمشروع تنموي متكامل، يشمل منشآت ذكية، ومراكز ابتكار مجاورة للملاعب، ومنصات بث رياضي محلية بإدارة سعودية، ومنظومات ضيافة وسياحة ومحتوى يتم تصديره خارجياً.
وقد انعكست هذه الرؤية في مشاريع مراكز البيانات، حيث وقعت DataVolt وSupermicro اتفاقًا لتأسيس أكبر منظومة حوسبة سحابية في الشرق الأوسط، باستثمارات تتجاوز 20 مليار دولار. كما أعلنت Amazon Web Services عن إنشاء “منطقة ذكاء اصطناعي متكاملة” في الرياض بقيمة 5 مليارات دولار، لتصبح منصة إقليمية متقدمة لتطوير الحلول السحابية والبيانات الضخمة. هذه المراكز لا تكتفي بخدمة الشركات العالمية، بل تستهدف تمكين رواد الأعمال السعوديين، وتوطين المهارات التقنية في عمق السوق المحلي.
ولم يكن هذا التمكين التقني مقتصرًا على الشركات الأجنبية، بل ظهر جليًا في الطموحات السعودية لقيادة الابتكار من الداخل. من خلال مشاريع وطنية كـ”NEOM Tech & Digital”، وتطبيقات ذكاء اصطناعي تُطوَّر داخل المملكة بلغات محلية، بدأت السعودية تدخل عصر السيادة التقنية، حيث لا تكتفي باستيراد الحلول، بل تصنعها وتعيد تصديرها.
لكن في خضم هذه التحولات، لا تغفل المملكة عن التحديات. فحجم الطموحات يتطلب قدرة هائلة على التنفيذ، واستدامة في جذب الكفاءات، ومرونة في مواكبة الأسواق العالمية المتغيرة. التوازن بين سرعة التوسع وبين ضمان جودة التنفيذ سيبقى أحد الاختبارات الرئيسية لهذا المشروع الوطني الطموح. كما أن الحفاظ على الاستقرار المالي والاجتماعي في ظل النمو المتسارع، يتطلب سياسات ذكية تعزز الشفافية وتدير الموارد بكفاءة.
وهنا، يبرز أيضًا دور القطاع الخاص السعودي، الذي لم يعد مجرد تابع، بل شريك رئيسي في صياغة هذا المستقبل. من خلال المبادرات الحكومية لتحفيز الصناعات الوطنية، وتمويل الشركات الناشئة، وإشراك رجال وسيدات الأعمال في مشاريع البنية التحتية والتقنية، باتت البيئة السعودية حاضنة لروح ريادية جديدة. الشركات المحلية اليوم تنافس على العقود العالمية، وتبني شراكات مع عمالقة التقنية، وتدخل مجالات كانت حتى وقت قريب حكرًا على الخارج.
وبينما تبني المملكة معادلاتها مع الغرب، فإنها في ذات الوقت تعيد صياغة تحالفات اقتصادية جنوب–جنوب مع قوى ناشئة كالهند، البرازيل، الصين، وجنوب إفريقيا، لتثبت أنها لا تنتمي لمحور واحد، بل تمثل عقدة استراتيجية في نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وفي الخط الموازي لهذا الحراك، بدأ يظهر بُعد آخر لا يقل أهمية: إعادة التموضع المالي للمملكة. فمع تزايد الحديث عن تنويع أدوات التمويل السيادي، والتوسع في استخدام الصكوك التنموية، وتزايد الاهتمام بتسعير بعض العقود بعملات بديلة عن الدولار، تلوح في الأفق ملامح دور سعودي جديد في إعادة هندسة النظام النقدي العالمي، مستند إلى الاستقلالية السيادية والمرونة الاستثمارية.
ولعل البُعد الإنساني هو ما يعطي لهذه الرؤية معناها الأعمق. فكل هذه التحولات تُترجم تدريجيًا إلى واقع يلمسه المواطن السعودي: فرص عمل نوعية، أنماط معيشة متجددة، بيئة ثقافية أكثر انفتاحًا، وتمكين حقيقي للمرأة والشباب. ليست القصة قصة أرقام فقط، بل قصة مجتمع يُعاد تشكيله بثقة، ضمن مشروع اقتصادي واجتماعي متكامل.
وقد لا يكون التحول الذي تقوده المملكة مجرد حالة سعودية، بل مؤشرًا على نموذج جديد للتنمية، تتلاقى فيه القوة المالية مع الابتكار، والقرار السيادي مع الانفتاح العالمي. نموذج يضع السعودية ليس فقط في موقع المنافسة، بل في موقع التأثير وصياغة المفاهيم. ولذلك تبرز الحاجة إلى خطوات استراتيجية تعمّق هذا المسار وتعزّز استدامته، مثل إنشاء مجلس سيادي وطني للتقنية والابتكار، وإطلاق منصة للاستثمارات السيادية المشتركة، وتفعيل أدوات التمويل البديل، ومأسسة شراكات التعليم التقني، وتطوير منظومة المحتوى الرقمي والثقافي، وإرساء أطر الحوكمة الرقمية، وتحويل الرياض إلى مركز عالمي للمنتديات الاقتصادية الصاعدة، وبناء مؤشرات وطنية جديدة تقيس الأثر التنموي لرأس المال.
لقد خرجت الرياض من هذا المنتدى لا بوصفها عاصمة لدولة نفطية، بل بوصفها مركز قرار اقتصادي عالمي يُعاد فيه رسم خرائط القوة، وتُصنع فيه الأدوات، وتُختبر فيه النماذج. في عالم يتغير بسرعة، تبدو المملكة وكأنها قررت أن تكون لا في الصفوف الأمامية فحسب، بل في موقع القيادة، لتطرح على العالم سؤالًا مفتوحًا: كيف سيُعيد هذا التحول السعودي تشكيل النظام العالمي في العقود القادمة؟
وفي قلب هذا التحول، لا يبدو أن السؤال الأهم هو ما إذا كانت المملكة مستعدة للمستقبل، بل ما إذا كان العالم مستعدًا لمستقبل تصنعه الرياض.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال