الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نأكل لنعيش، لكننا ننتج ونستهلك ونهدر كما لو أننا نأكل لنرمي. في كل بيت، هناك درج في الثلاجة يُفتح نادرًا، ووجبة لا تُؤكل كاملة، وكيس خبز يُلقى دون ندم. المفارقة ليست فقط في أن الطعام يُهدر، بل في أن السلوك الذي يقود إلى الهدر يُكرر يوميًا، بلا مراجعة. الفهم الحقيقي للهدر لا يتوقف عند كونه فائضًا ماديًا، بل يمتد إلى كونه اختيارات يومية تُعاد بلا وعي، ومواقف متكررة تعكس عمق ثقافة مجتمع بأكمله. الطعام يُفقد بطريقتين: إما لأنه لم يصل إلينا أصلًا، كما في مراحل الحصاد والتخزين والنقل – وهذا يُسمى الفاقد الغذائي، أو لأنه وصل إلى أيدينا ثم فرّطنا فيه، كما يحدث في المطاعم والمنازل – وهذا يُسمى المهدر الغذائي. المهدر أخطر، لأنه نتيجة مباشرة لسلوك يمكن تغييره. وفق تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يُهدر العالم قرابة 931 مليون طن من الطعام سنويًا – رقم يعادل نحو خمس الطعام المنتج. المثير أن أكثر من 60% من هذا الهدر يحدث داخل المنازل، وبخاصة في قصور المناسبات. السبب؟ سلوكيات صغيرة تتكرر: استهلاك ما لا نحتاج، الطبخ دون تخطيط، تقديم الطعام بإفراط في المناسبات، أو الاستجابة لعروض تسويقية لا نحتاجها. كل هذا لا يرتبط بندرة أو وفرة، بل بعادات اجتماعية ومفاهيم حول الكرم، وحول الخوف من نقص لا يحدث أصلًا.
لكن العالم لا يقف صامتًا. وفيما يلي أمثلة على بعض الدول التي تبنّت سياسات لمواجهة الهدر الغذائي، وليست حصرًا لكل الجهود العالمية، فهناك العديد من الدول حول العالم تعمل على برامج مشابهة أو متنوعة: فرنسا سنت قانونًا يُجبر المتاجر الكبرى على التبرع بالطعام الفائض بدل التخلص منه. كوريا الجنوبية فرضت رسومًا على نفايات الطعام حسب الوزن، مما خفض نسب الهدر بنسبة 30%. إيطاليا قدّمت حوافز ضريبية للجهات التي تتبرع، وسهّلت إجراءات النقل. هولندا تُلزم الشركات بتقارير دورية لتقليل الهدر. اليابان ألزمت المؤسسات بخطط مكتوبة لتقليص المهدر. ألمانيا دعمت تطبيقات ذكية لإعادة توزيع الطعام. السويد حولت الفائض إلى وقود حيوي. كندا فعّلت برامج موجهة لإعادة الطعام للفئات الأضعف.
سنغافورة بدورها قدمت نموذجًا فريدًا في إدارة الهدر الغذائي، حيث تبنت استراتيجية شاملة تجمع بين الابتكار والتوعية. فرضت الدولة لوائح مشددة على إدارة النفايات الغذائية، وأطلقت حملات توعوية في المدارس والمجتمع، إلى جانب دعم مبادرات لإعادة تدوير بقايا الطعام وتحويلها إلى طاقة. هذه السياسات لم تؤد فقط إلى خفض معدلات الهدر، بل عززت ثقافة احترام الموارد، ورسّخت قيم الكفاءة والاستدامة كجزء من الهوية الوطنية.
وفي المملكة العربية السعودية، برزت جهود عملية متقدمة لمواجهة هذه الظاهرة. فقد تم تأسيس البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر الغذائي، بالتعاون مع جهات حكومية وخاصة، إضافة إلى دعم مبادرات مثل بنك الطعام “إطعام”، وتنفيذ حملات توعوية مدروسة لتغيير السلوكيات الغذائية الخاطئة. وتشير الإحصاءات إلى أن الهدر الغذائي يكلف المملكة أكثر من 40 مليار ريال سنويًا، وهو رقم ضخم يعكس أهمية التصدي لهذا التحدي. ويُضاف إلى ذلك بعدٌ اجتماعي مهم يتمثل في الأنماط الثقافية التي تبالغ في تعظيم الموائد والمناسبات بحثًا عن مكانة اجتماعية وهمية، مما يجعل هذه العادات تُتناقل عبر الأجيال لتصبح جزءًا من الثقافة العامة، ويتحول الإفراط إلى معيار اجتماعي غير صحي يؤثر حتى في القرارات الأسرية والاقتصادية.
لذا، فإن الحل لا يكمن فقط في رفع الوعي، بل في تحويله إلى سلوك يومي رشيد. من المفيد، مثلًا، إعادة تصميم أطباق الطعام بما يتناسب مع الحاجة، وإدخال قيم احترام النعمة في مناهج المدارس، وإلزام المتاجر بمسؤوليات أخلاقية تجاه الفائض. عندما نعيد بناء عاداتنا الغذائية على أسس من الرشد والوعي، فإننا لا نطيل فقط عمر الطعام… بل نطيل عمر النعمة لتدوم البركات على مجتمعاتنا.
إن تحمّل علية القوم من أصحاب المكانة الاجتماعية والفضل الحقيقي لمسؤوليتهم في قيادة هذا الوعي سيكون له أثر بالغ. إذ إنهم يمثلون قدوة يحتذي بها الجميع، خاصة في مجتمعنا حيث يُنظر إلى أنماطهم الاجتماعية كمُثُل عليا يُراد محاكاتها. عندما يتبنّى علية القوم ممارسات رشيدة في المناسبات والاحتفالات، ويُعيدون تشكيل مفاهيم الكرم بعيدًا عن التبذير والهدر، فإن ذلك يخلق ضغطًا اجتماعيًا إيجابيًا يُحد من السلوكيات المفرطة ويُشجع الشباب والأسر على تبني أساليب أكثر عقلانية واعتدالًا. هذا التغيير في القيم يُمكن أن يُسهم في حل قضايا اجتماعية واقتصادية وبيئية متشابكة، ويُعزز من جودة الحياة بشكل عام.
فالكثير من الشباب يتراجع عن قرار الزواج نتيجة عدم قدرته على محاكاة الأنماط الاجتماعية المترفة التي صُورت على أنها ضرورات لا يمكن الاستغناء عنها، مما يؤدي إلى تأخر الزواج وازدياد معاناة العنوسة، وهي مشاكل متفاقمة تؤثر على المجتمع بأسره. وعندما يقود علية القوم التغيير، فإنهم يفتحون المجال لحلول عملية تُزيل الضغوط الاجتماعية والمالية، وتُسهم في بناء مجتمع أكثر توازنًا وازدهارًا.
الهدر ليس مسألة فائض طعام فقط، بل انعكاس لاختياراتنا اليومية التي يمكن تغييرها. عندما نتعامل مع الطعام برشد، نعيد له قيمته، ونُكرم به أنفسنا ومجتمعنا. فالمعادلة بسيطة: القليل من الانتباه اليوم يصنع أثرًا كبيرًا غدًا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال