الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
منذ أن عرفت المجتمعات البشرية التجارة، شكّلت بيوت التجارة والأسواق منصاتٍ حيوية ليس فقط لتبادل السلع، بل أيضًا لتبادل الأفكار، وبناء التحالفات الاجتماعية، وصياغة المشهد الحضاري. ولم يكن بيت التجارة في مكة زمن قريش مجرد مركز بيع وشراء، بل كان قلبًا نابضًا للحراك السياسي والاجتماعي، تسري من خلاله المصالح، وتنسج عبره العلاقات، وتعقد الصفقات حتى قيل إن أمن الحرم كان يُدار تحت سقف دار الندوة التي اجتمع فيها كبار التجار. واليوم، تتجدد الحاجة إلى أن تقوم الغرف التجارية في المملكة العربية السعودية بهذا الدور العميق: أن تكون أكثر من مجرد كيانات اقتصادية، وأن تتحول إلى قوى محركة للحراك المجتمعي والتنمية الوطنية.
الغرف التجارية مطالبة اليوم بأن تكون منصات تفاعلية تجمع التجار، الصناع، المستثمرين، ورواد الأعمال مع شرائح المجتمع المختلفة، لخلق مساحات للنقاش والتخطيط والتنفيذ، لا مجرد تبادل مصالح ضيقة. وقد نجحت غرفة الرياض في إطلاق “منتدى الرياض الاقتصادي” الذي تحول إلى عقل جماعي يُنتج توصيات وطنية كبرى، مما يعكس أن الغرفة حين تتحرك كمؤسسة تفكير وحوار، تساهم في صناعة القرار الوطني لا فقط في تنظيم النشاط التجاري. والمشاريع الصغيرة تمثل العمود الفقري للاقتصادات الحديثة، وفي المملكة، وفق تقرير الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة (منشآت، 2023)، تشكل هذه المنشآت نحو 99% من إجمالي الشركات. وقد أثبتت غرفة جدة ريادتها حين أسهمت في دعم آلاف المشاريع الصغيرة من خلال برامج تمويلية واستشارية مثل مبادرة “صنعتي بيدي”، مما مكن شريحة واسعة من الشباب والنساء من دخول سوق العمل. وعلى المستوى العالمي، أنشأت غرفة ميونخ الألمانية شبكة حاضنات اجتماعية لدعم مشاريع الشباب، وأسهمت في خفض نسب البطالة بنحو 15% خلال ثلاث سنوات، ما يدل على أن رعاية المشاريع الصغيرة أحد المفاتيح الكبرى لتحريك الاقتصاد والمجتمع معًا.
دور الغرف التجارية لا يكتمل دون بناء قنوات اتصال مؤسسي مع الأجهزة الحكومية، لتكون صوتًا يعبر عن احتياجات القطاع الخاص ويساهم في تحسين السياسات العامة. وقد كانت تجربة غرفة أبها في “ملتقى التوطين” نموذجًا ناجحًا لهذا التعاون البناء، حين جمعت بين القطاع الحكومي ورواد الأعمال لتطوير فرص العمل المحلية، مما أسهم في تعزيز حضور الكفاءات الوطنية في سوق العمل. وفي جانب آخر، بات من الضروري أن تتحول الغرف التجارية إلى محاضن للأفكار الريادية، ومراكز إشعاع لثقافة التنمية المستدامة، كما فعلت غرفة دبي حين أطلقت “أكاديمية دبي لريادة الأعمال” التي ساهمت في تخريج آلاف الرياديين، وأسهمت في خلق شركات ناشئة كان لها أثر بارز في الاقتصاد المحلي.
وتُعد تجربة غرفة القصيم مثالًا رائدًا في الاستثمار في رأس المال البشري، حيث أطلقت أحد أقوى برامج الماجستير التنفيذي المتميز والاستراتيجي، بالتعاون مع وزارة التعليم العالي وجامعة الملك عبد العزيز، وتحت إشراف ومتابعة مباشرة من سمو أمير منطقة القصيم ونائبه – حفظهما الله ورعاهما. وقد استمر البرنامج لعدة دفعات، وخرج نخبة من الكفاءات الوطنية التي باتت اليوم تسهم بفاعلية في خدمة الوطن في مختلف المجالات الحيوية، على امتداد أرضه المباركة. ومنهم من نال درجة الدكتوراه، وهم جميعًا يسيرون بخطى واثقة في ضوء رؤية 2030، مؤمنين بواجبهم تجاه وطنهم، وأهلٌ لأن يكونوا رواده في المرحلة القادمة.
مسؤولية الغرف التجارية تمتد كذلك إلى دعم العمل التطوعي والمسؤولية الاجتماعية، حيث أظهرت تجربة غرفة الشرقية خلال جائحة كورونا، عبر مبادرة “خير الشرقية”، كيف يمكن للغرفة أن تعبئ مواردها في خدمة المجتمع وقت الشدائد، من خلال توزيع آلاف السلال الغذائية وتنظيم حملات التوعية الصحية، مما عزز من تماسك المجتمع وأكد الدور الإنساني للغرف. وعلى الصعيد العالمي، أنشأت غرفة برشلونة مشروع “نمو شامل للمجتمع”، الذي استهدف دمج الشباب العاطل في دورة الإنتاج عبر التدريب والدعم، بينما ربطت غرفة طوكيو التجارية بين الشركات الكبرى والمشاريع الناشئة في الأحياء الأقل نموًا، فخلقت أكثر من خمسين ألف فرصة عمل خلال عشر سنوات، مؤكدة أن الغرف حين تتحرك بروح المجتمع تصنع التنمية بمعناها الشامل.
إن بناء وطن طموح لا يتم فقط عبر القرارات الكبرى، بل يصنعه كذلك نبض كل غرفة تجارية تؤمن بأن رؤيتها، رسالتها، قيمها، أهدافها تتجاوز جدرانها وأعضائها. إننا اليوم أمام فرصة تاريخية لنُعيد تعريف دور الغرف التجارية بوصفها قوىً حية تُسهم في تشكيل المستقبل، لا تكتفي برصده في إطار رؤية وطن حيوي طموح مزدهر. فكل برنامج ومبادرة تنظمها الغرف، وكل يد تمتد لدعم مشروع صغير، وكل فكرة تُزرع في عقول شباب الأعمال عبر منصاتها، هي لبنة في بناء مجتمع أكثر حيويةً، واقتصاد أكثر رسوخًا. فلنكن معًا في الغرف التجارية صوتًا للحراك، وجسرًا للأمل، ونقطة انطلاق نحو وطن يليق بتضحياتنا وأحلامنا تحت راية رؤية 2030، ومن أجل الأجيال الحالية والقادمة من رواد الأعمال السعوديين.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال