القطاع الخيري: صمام أمان للعدالة والنمو الشامل

تواجه المجتمعات المعاصرة تحديًا مزدوجًا في مسارها التنموي: كيف تحقق النمو الاقتصادي دون المساس بالعدالة الاجتماعية؟ وكيف تُوزَّع الثروة والفرص بطريقة تحفظ الاستقرار وتُعمّق التماسك، دون أن تتعارض مع الكفاءة والمبادرة الفردية؟ في هذا الإطار، يتقدم القطاع الخيري بوصفه صمام أمان لهذه المعادلة المركبة، من خلال قدرته على سد الثغرات التي تعجز عنها آليات السوق، وتوجيه الفائض نحو المهمّشين، وتوسيع أفق التنمية ليشمل البعد الإنساني والاجتماعي.

يتحرّك القطاع الخيري وفق منظومة قيمية تستهدف خدمة الإنسان، وتعزيز التضامن الاجتماعي، وتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية. وتمكنه هذه المقومات من أداء دور نوعي في تحقيق العدالة، ليس باعتبارها شعارًا أخلاقيًا، بل بوصفها أساسًا بنيويًا للاستقرار والنمو. ففي حالات تركز الثروة، أو تضخم التزامات الدولة، يظهر القطاع الخيري كأقدر الفاعلين على الوصول إلى الفئات الهشّة، وتقديم الخدمات بكرامة واستمرارية، من دون اشتراط مقابل أو منفعة تجارية.

ولا تقف العدالة عند حدود إعادة توزيع الموارد، بل تشمل تمكين الأفراد من المشاركة، وتوفير الفرص الملائمة، وتعزيز شعورهم بالانتماء والقدرة على التأثير. وهنا يُؤدّي القطاع الخيري دورًا تكامليًا في إدماج الأفراد في المجال العام، وتنمية طاقاتهم، وتوسيع شبكاتهم الاجتماعية. هذه الأدوار تسهم في تكوين رأس مال اجتماعي يعيد بناء الثقة داخل المجتمع، ويعزّز الصلة بين المجتمع والدولة، ويمنح السياسات طابعًا تشاركيًا يقوم على المسؤولية المتبادلة.

ويمتاز القطاع الخيري كذلك بقدرته على التكيّف المحلي، ما يجعله أكثر فاعلية في الاستجابة لحاجات المجتمعات الطرفية، وأكثر مرونة في معالجة القضايا التي لا تدخل ضمن حسابات السوق أو أولويات الدولة. وتُتيح له هذه الصفات الإسهام في تحقيق العدالة المكانية، وردم الفجوات التنموية بين المناطق، والمساهمة في توازن توزيع فرص التنمية. وتُعدّ هذه الوظائف جزءًا من مسار تنموي لا يمكن للدولة أن تنهض به منفردة، ولا يتولاه السوق إلا بدافع الربح.

من جانب آخر، فإن أثر القطاع الخيري يمتد إلى النمو الاقتصادي من خلال تحفيز الطلب المحلي، وتوليد الوظائف، ورفع إنتاجية رأس المال البشري، لا سيما في قطاعات التعليم، والصحة، والرعاية. كما أن ما يُنتجه من ثقة متراكمة يسهم في خفض التكاليف، وتحسين بيئة الاستثمار، وتعزيز استقرار الاقتصاد في المدى البعيد. ويتضاعف هذا الأثر حين يجمع بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد.

وقد جسدت رؤية المملكة العربية السعودية 2030 هذا الإدراك المتقدم، عندما أقرت بضرورة رفع مساهمة القطاع الخيري في الناتج المحلي، وتوسيع أدواره في تحقيق التنمية الشاملة، وتعزيز حضوره في مؤشرات رأس المال الاجتماعي. وهذه المقاربة تُعيد رسم معالم التنمية بوصفها مشروعًا مجتمعيًا تتقاطع فيه الجهود بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص.
من هنا، فإن وصف القطاع الخيري بـ”صمام الأمان” لا يُعد مجازًا بل تعبيرًا دقيقًا عن دوره في حفظ التوازن، واحتواء الاختلالات، والمضي بالتنمية نحو عدالة لا تعوق النمو، واستدامة لا تفرّط في التماسك الاجتماعي. وحين يُفعَّل هذا القطاع على أسس من الاستقلال والكفاءة والشفافية، فإن أثره يتجاوز الحالات الموضعية، ليشمل البنية العامة للتنمية، فيجعلها أكثر عدلًا، وأشد صلابة، وأوسع نطاقًا من حيث الشمول والقدرة على الصمود