القطاع غير الربحي وتفاعله مع الاقتصاد الكلي

تتسع النظرة الحديثة للاقتصاد الكلي لتشمل مكونات كانت إلى وقت قريب على هامش التحليل الاقتصادي، ومن أبرزها القطاع غير الربحي، الذي لم يعد مجرّد مكمّل خيري للنشاط الرسمي، بل غدا فاعلًا اقتصاديًا ذا أثر متبادل مع الاقتصاد الكلي، سواء في بنيته أو أدائه أو استدامته.

ويظهر هذا التفاعل من خلال مسارين رئيسين: أولهما تأثر القطاع غير الربحي بتقلبات البيئة الاقتصادية الكبرى، وثانيهما إسهامه في استقرار هذه البيئة وتحفيز نموها وتعزيز عدالتها. فعلى صعيد التأثر، تُظهر التجربة أن هذا القطاع يتفاعل مع مؤشرات الاقتصاد الكلي بمرونة حساسة، حيث ترتبط قدرته التمويلية بمستوى النشاط الاقتصادي العام، وحالة الأسواق، والسياسات المالية والنقدية. ففي فترات التوسع، يتزايد الدعم الأهلي والمؤسسي، وتتنامى المبادرات، وتُتاح فرص أوسع لبناء الشراكات المجتمعية. أما في فترات الانكماش، فإن القطاع يواجه تحديات مزدوجة تتمثل في ارتفاع الطلب المجتمعي على خدماته، مقابل تقلّص حجم الموارد والإيرادات، مما يفرض عليه تطوير كفاءته التشغيلية، وتوسيع أدوات التمويل المستدام.

أما في المسار الثاني، فإن القطاع غير الربحي يُسهم بفاعلية في تحقيق أهداف الاقتصاد الكلي، من خلال أربع قنوات أساسية: أولًا، من خلال دوره في تنشيط الطلب الكلي، إذ يُعد إنفاقه الجاري والاستثماري جزءًا من الدورة الاقتصادية، يسهم في تحريك الأسواق، وخلق فرص العمل، وتوليد القيمة المضافة. ثانيًا، عبر تخفيف العبء عن المالية العامة للدولة، من خلال توفير خدمات الرعاية والصحة والتعليم والتنمية المحلية في مناطق يصعب على القطاع العام تغطيتها بالكفاءة المطلوبة. ثالثًا، بإسهامه في إعادة توزيع الدخل وتقليص الفجوات الاجتماعية، من خلال استهدافه للفئات الأشد احتياجًا، بما يحقق بعدًا عدالياً يعزز من استقرار النظام الاقتصادي برمّته. رابعًا، بتقوية رأس المال الاجتماعي، حيث يسهم القطاع في ترسيخ الثقة المتبادلة، وتشجيع المشاركة المجتمعية، وتيسير التعاون بين الفئات، وهي عناصر تُسهم في خفض تكاليف المعاملات، وزيادة فعالية النظام الاقتصادي.

وقد بدأت بعض الدول، بالتعاون مع منظمات دولية متخصصة، بتطوير ما يُعرف بـ”الحساب الفرعي للمؤسسات غير الربحية”، وهو أداة محاسبية تابعة لمنظومة الحسابات القومية، تتيح قياس الإسهام الفعلي لهذا القطاع في الناتج المحلي، والتشغيل، والقيمة الاقتصادية والاجتماعية المضافة. ويُعد هذا الحساب خطوة متقدمة نحو دمج القطاع غير الربحي في صلب التحليل الاقتصادي، وتقدير أثره ضمن مؤشرات النمو والاستدامة وكفاءة الإنفاق. كما أن لهذا التوجه بعدًا استراتيجيًا في رصد كفاءة الأدوار التنموية، وفهم العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع من منظور أشمل.

وفي السياق السعودي، تبرز أهمية هذا التوجه في ضوء التزامات رؤية المملكة 2030، التي منحت القطاع غير الربحي دورًا محوريًا، وحددت له مستهدفات كمية ونوعية طموحة، من بينها رفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 5%، وتعزيز مساهمته التنموية والاستثمارية والاجتماعية. وتحقيق هذه الأهداف يتطلب بناء قاعدة بيانات وطنية موثوقة، وتطوير مؤشرات أداء قادرة على التقاط الأثر الحقيقي لهذا القطاع، وربط مخرجات الحساب الفرعي لصالح التخطيط الاقتصادي، بما يُمكّن صناع القرار من دمج نتائجه ضمن أدوات رسم السياسات العامة.

إن إدراك هذا التفاعل بين القطاع غير الربحي والاقتصاد الكلي، والانتقال من توصيفه الخيري إلى تحليله بوصفه مكونًا اقتصاديًا واجتماعيًا فاعلًا، يُعد ضرورة علمية وسياساتية، تُمكّن من فهم أكثر نضجًا لديناميات الاقتصاد الوطني، وتعزز كفاءة توزيع الموارد، وتفتح آفاقًا جديدة للبحث والتطوير في هذا المجال الحيوي.