الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُعد القطاع غير الربحي أحد الأذرع الرئيسة لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، التي نصّت على رفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 5%، وتعزيز دوره كشريك تنموي فاعل. ولم يعد هذا القطاع في المملكة مجرد امتداد للعمل الخيري التقليدي، بل أصبح فاعلًا اقتصاديًا وتنمويًا استراتيجيًا، يُسهم في تنويع الاقتصاد الوطني، وتحفيز الابتكار الاجتماعي، وتوليد فرص العمل، ورفع كفاءة الإنفاق العام. كما بات يُنظر إليه بوصفه مجالًا واعدًا للاستثمار الاجتماعي القائم على العوائد الاجتماعية القابلة للقياس (SROI)، والتي تتجاوز المفهوم المالي التقليدي لتشمل الأثر المجتمعي طويل الأجل في التعليم والصحة وجودة الحياة. ومع هذا التحول، تزداد الحاجة إلى إطار تشريعي حديث لا يكتفي بتنظيم الكيانات، بل يمكّنها ماليًا ومؤسسيًا، ويُوسّع نطاق أثرها، ويعزز كفاءتها، ويضمن استدامتها في ظل متغيرات اجتماعية واقتصادية متسارعة.
ورغم الخطوات المهمة التي تحققت، مثل صدور نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ونظام العمل التطوعي، وتحديث لائحة الحوكمة، إلا أن واقع التشريعات لا يزال قاصرًا عن استيعاب هذا الطموح، إذ يفتقر القطاع إلى إطار قانوني شامل ومرن يعكس تطلعات الدولة، ويمنح المنظمات غير الربحية الاستقلال والفاعلية. ولا تزال البنية التنظيمية بحاجة إلى إصلاحات تشريعية جذرية تُعيد تموضع القطاع في صلب التنمية الوطنية، لا في هامشها.
وفي هذا السياق، بادر المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي بنشر عدد من مشاريع الأنظمة النوعية عبر منصة “استطلاع”، في خطوة تستهدف سدّ الفجوة التشريعية وتنظيم العلاقة بين الدولة والمنظمات. ورغم أهمية هذه المشاريع، إلا أن بطء تحولها إلى واقع تشريعي فعّال يعكس فجوة متزايدة بين التوجهات الاستراتيجية والتنفيذ الفعلي، وهي فجوة تتضح بجلاء في محدودية قدرة القطاع على الانطلاق نحو صناعة الأثر المستدام.
ومن مظاهر هذه الفجوة كذلك ضعف مشاركة القطاع غير الربحي في قيادة المبادرات الكبرى ضمن برامج تحقيق الرؤية، رغم ما يتمتع به من مرونة مؤسسية وقرب مجتمعي وقدرة على تعبئة الموارد. إذ لا تزال غالبية المبادرات تُصمم وتُدار من قبل الجهات الحكومية، دون أن يُسنَد للقطاع دور قيادي من مرحلة التصميم إلى مرحلة التنفيذ، ما يضعف فاعليته ويقلص فرص الابتكار فيه.
ولتجاوز هذا القصور البنيوي، تبرز الحاجة إلى إطار نظامي جديد يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والقطاع غير الربحي، يتيح له تصميم وتنفيذ مشاريع وطنية ممولة ومستدامة، تُدار بحوكمة مستقلة، وتُقيم بمؤشرات واضحة تقيس الأثر الاجتماعي والاقتصادي. ويتطلب هذا النموذج الممكن تشريعات متقدمة وممكنات تنظيمية ومالية تراعي خصوصية القطاع، وتمنحه مرونة الحركة دون الإخلال بالضبط والشفافية.
ولا يمكن تصور هذا التحول بمعزل عن الاستفادة من التجارب الدولية الرائدة، التي أثبتت أن تمكين القطاع غير الربحي من أدوار قيادية في التنمية ليس خيارًا تنظيميًا فحسب، بل ضرورة هيكلية للنمو الشامل.
ففي المملكة المتحدة، تم اعتماد عقود “التمويل المرتبط بالأثر” لتمويل منظمات تُعنى بإصلاح التعليم ومكافحة البطالة ضمن شراكات قائمة على النتائج.
وتتقاطع هذه التجربة مع تجربة كندا، حيث تتكامل المنظمات المجتمعية مع الحكومة عبر برامج “الاستثمار الاجتماعي” التي تربط التمويل بالمؤشرات الاجتماعية والابتكار المحلي.
أما التجربة الأسترالية، فتمثل نموذجًا تطبيقيًا مختلفًا من حيث إسناد تصميم وتنفيذ برامج الرعاية الصحية والخدمات المجتمعية للقطاع، مع إشراف حكومي تنظيمي غير تدخلي.
وتُكمل التجربة السنغافورية هذه السلسلة بإطار تشريعي شمولي، أنشأت الحكومة بموجبه “مجلس المؤسسات الخيرية” لتمكين المنظمات من الوصول إلى التمويل، وتطوير قدراتها، ودمجها في تنفيذ الأولويات الوطنية، خاصة في التعليم وريادة الأعمال والرعاية الاجتماعية. وتمتاز بربطها المباشر بين الأثر الاجتماعي والنمو الاقتصادي ضمن بيئة تشريعية مستقرة ومحفّزة للابتكار.
وقد ساهمت هذه النماذج في تعزيز كفاءة الإنفاق العام، وتحقيق التكامل بين الدولة والمجتمع، وترسيخ ثقة المواطنين في المنظمات غير الربحية بوصفها شريكًا استراتيجيًا، لا تابعًا إداريًا.
وفي ضوء ذلك، تُعد العوائد الاجتماعية على الاستثمار (SROI) من أبرز الأدوات الحديثة لقياس جدوى المبادرات غير الربحية، إذ تُقدّر الأثر الاجتماعي والاقتصادي الناتج عن كل ريال يُستثمر في مشروع تنموي. وقد طبّقت المملكة المتحدة هذا المفهوم في عدة برامج تعليمية وصحية، حيث أظهرت دراسة لتقييم مبادرة مجتمعية لمعالجة التسرب المدرسي أن كل جنيه استرليني تم استثماره في البرنامج عاد بما يعادل 9 جنيهات من الأثر الاجتماعي، موزعة بين خفض معدلات الجريمة، وزيادة فرص العمل، وتحسين الأداء التعليمي.
وتؤكد هذه النتائج أن الاستثمار في القطاع غير الربحي ليس عبئًا ماليًا، بل أداة فعالة لتعظيم الأثر الوطني.
وفي هذا الإطار، تكشف التجارب الدولية، ولا سيما في سنغافورة والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية، عن أهمية الإطار التشريعي المُمكّن في تحويل المراكز العلمية والمنظمات غير الربحية إلى روافع تنموية مستدامة. فقد منحت سنغافورة مراكزها صفة “هيئات نظامية مستقلة” (Statutory Boards) تابعة لوزير التعليم، تضمن لها الاستقلال المالي والتشغيلي ضمن رقابة حكومية مرنة. واختارت المملكة المتحدة نموذج “الهيئات الخيرية العامة” (NDPB) الخاضعة للرقابة البرلمانية، بينما تبنّت كوريا الجنوبية تصنيفًا إداريًا خاصًا ضمن المؤسسات العامة الأخرى. وتتفق هذه النماذج في اعتماد تمويل حكومي جزئي (حوالي 50-60%) يُكمل برعاية خاصة ودخل ذاتي وتبرعات مؤسسية، مما يعزز الاستدامة دون إخلال بدور الدولة. كما تنبه هذه النماذج إلى ضرورة تحقيق العدالة الجغرافية في الوصول إلى الخدمات غير الربحية، سواء عبر أفرع ثابتة أو برامج متنقلة، وتربط بوضوح بين الدعم الحكومي ومؤشرات الأداء المجتمعي كعدد الزوار والمستفيدين. إن استيعاب هذه الأبعاد في التشريعات السعودية من شأنه أن يُحدث نقلة نوعية في تمكين الكيانات غير الربحية من أداء أدوارها بفعالية، وتحقيق الأثر على نطاق وطني واسع.
وامتدادًا لتطبيق هذا النموذج محليًا، يبرز مشروع واحة الملك سلمان للعلوم كأحد أبرز المبادرات غير الربحية التعليمية القابلة لتطبيق SROI في المملكة، نظرًا لطبيعته التفاعلية، وارتباطه المباشر بتنمية رأس المال البشري، وتحفيز التفكير العلمي، ورفع جودة التعليم. ويمثل المشروع أحد المبادرات النوعية التي أطلقتها مؤسسة الرياض الخيرية للعلوم – التي أسسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – ويجسد نموذجًا وطنيًا متقدمًا في دمج التعليم بالتقنية ضمن إطار غير ربحي فعّال. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى أن تتبناه الدولة ضمن منظومة برامج رؤية السعودية 2030، بإشراف مشترك من المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي ووزارة التعليم، وبدعم من الجهات المعنية بالبحث والتطوير والابتكار. ويكتسب هذا التوجه أهمية مضاعفة بالنظر إلى ما يمكن أن يسهم به المشروع في تعزيز التعليم النوعي، وتحفيز الاقتصاد المعرفي، والارتقاء بجودة الحياة، مع تعميم نموذجه على مختلف المناطق لتوسيع قاعدة الأثر المجتمعي والمعرفي.
وفي السياق ذاته، تزخر المملكة بمبادرات غير ربحية رائدة، من أبرزها مؤسسة مسك التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – وتمثل نموذجًا وطنيًا فاعلًا في تمكين الشباب، ودعم الابتكار وريادة الأعمال، من خلال مبادرات نوعية كمدارس مسك وأكاديمية مسك وغيرها.
ويُضاف إلى ذلك نموذج جامعة الأمير سلطان، التي أسستها مؤسسة الرياض الخيرية للعلوم، كأول جامعة أهلية غير ربحية في المملكة، وقد شكّلت علامة فارقة في التعليم العالي من حيث جودة المخرجات، وارتباط البرامج بسوق العمل، وتميز الأداء الأكاديمي والإداري. وتتقدم الجامعة على عدد من نظيراتها الحكومية في مؤشرات الأداء والتوظيف، ما يفتح الباب أمام مطالبة مشروعة بمساواتها بالجامعات الحكومية التي تم تحويلها إلى مؤسسات غير ربحية، بما يكفل عدالة الدعم ويعزز بيئة التنافسية والتميز المؤسسي.
وفي هذا الإطار، جاء تأسيس المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي كخطوة تنظيمية محورية، أُنيط بها تطوير السياسات العامة للقطاع، وتنظيمه، والإشراف عليه، وقياس أثره. ويُعوَّل على المركز أن يقود نقلة نوعية في تهيئة البيئة النظامية، وتحفيز الشراكات، وتعزيز الحوكمة، وربط جهود القطاع بالمسارات الوطنية للتنمية.
وتُعد الاستراتيجية الوطنية التي يعمل المركز على إعدادها حاليًا الإطار الأعلى لهذا التحول، إذ يُعوّل عليها في إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والقطاع، وترجمة التوجهات إلى سياسات عملية، وأهداف قابلة للقياس، ومؤشرات واضحة للأثر. وتتضمن خارطة طريق لتوسيع مساهمة القطاع في الناتج المحلي، وتمكينه من الوصول إلى مصادر تمويل مستدامة، وتحفيز الشراكات مع القطاعين العام والخاص، وتعزيز ممارسات الحوكمة والاستدامة.
وتُظهر المؤشرات الحديثة الواردة في التقرير السنوي للمركز لعام 2023 تقدمًا ملحوظًا، حيث ارتفعت نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي من 0.55% إلى 0.87% خلال عام واحد، وتجاوز عدد المتطوعين 834,000 متطوع. ورغم دلالة هذا النمو، فإنه لا يزال دون مستهدف الرؤية، مما يعيد التأكيد على أن التمكين التشريعي هو العامل الحاسم لتحويل هذا النمو إلى أثر مؤسسي مستدام.
إن التحوّل المنشود لا يكتمل بمجرد إقرار أنظمة جديدة، بل يتطلب إعادة هيكلة المنظومة بأكملها لتكون أكثر شمولًا واتساقًا وقدرة على التمكين. ويشمل ذلك توحيد المرجعيات التنظيمية، والسماح بتأسيس أذرع استثمارية، وتفعيل أدوات تمويل مبتكرة كالسندات الاجتماعية، وتقديم حوافز ضريبية ذكية، وتوسيع نطاق الشراكات الرسمية، وإرساء العلاقة بين الدولة والقطاع على أسس من الاستقلال لا التبعية، ومن الإنتاج لا التلقي.
فإذا كانت رؤية 2030 قد منحت القطاع غير الربحي موقعًا محوريًا في خريطة التنمية، فإن المنظومة التشريعية مطالبة اليوم بمنحه الأدوات والضمانات التي تليق بهذا الدور. وإذا كانت الدولة قد فتحت الأفق، فإن الواجب على المنظم أن يُطلق الإمكانات، ويُعيد بناء الإطار النظامي بما يحوّل القطاع من هامش تابع إلى محرّك مستقل وفاعل، يحمل على عاتقه مسؤولية الأثر، ويشارك الدولة في صناعة المستقبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال