الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في فبراير الماضي، رعت كل من الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) و جامعة حائل،
ملتقى مهما عن دور الذكاء الاصطناعي في التعليم، كان السؤال الأهم: ماهي التحديات التي تواجهها الجامعات في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي؟!
وفي تقديري، أن التحدي الأكبر أمام الجامعات، هو الإدراك والتسليم أن الذكاء الاصطناعي يعيد اليوم تعريف التعليم والأكاديميا نفسهما، ويخلق لهما شكلًا جديدًا، علينا أن نقبل وجوده بيننا.
فلطالما أطفأت كل أداة جديدة ترى النور؛ توهجا عقليا مماثلا لغرضها عند الإنسان؛ كما أطفأت الآلة الحاسبة الحساب الذهني وحفظ جداول الضرب وذهبت بهما إلى غير رجعة عند كثيرين، فإن عقل الإنسان الناقد مضمحل أيضا؛ لانفجار المحتوى العصي على الاستيعاب وسهولة الوصول إليه، مع تغول الآلات وطغيان المكاسب السريعة؛ حتى ينتهي بنا الحال من تمحيص مخرجاتها إلى التسليم بقبولها على أي حال.
حسنا، لنأخذ فرعًا محدودًا من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهي النماذج اللغوية الكبيرة، وأداة منها يستخدمها الطلاب والأساتذة اليوم معا، وهي ChatGPT في نسخته الرابعة مثلا. ما يميز هذه النسخة أنها مؤنسنة أكثر من سابقاتها (بالإنجليزية More Humanized)، أي أنها تمحو آخر الحدود التي نملكها للتفريق بين نصوص المعرفة التي تقدمها الآلة، وتلك التي يقدمها الإنسان!
وهذا فوق أنه يُعقّد على الأساتذة استكشاف الغش العلمي، فإن خطره الأحدق أنه استبدال حقيقي وسريع للأستاذ عند المتعلم! فكيف يكون ذلك؟
يملك ChatGPT-4 معجما واسعا ومترابطا لكل مصطلح علمي، عابرًا للفنون والعلوم المتداخلة، مما يجعل تعابيره وشروحه أكثر منبسطة أكثر من أي أستاذ جامعي آخر، وهذا يمنحه ميزة إضافية في تسهيل شرح هذه المعارف للسائلين عنها أكثر مما يفعل أستاذ القاعة الجامعي، خاصة وأن ChatGPT-4 يفصل الإجابات بمقاس السائل، لما يعرفه عنه بما يحفظه عن خلفيته العلمية، واهتماماته ومفضلاته، فهذه الأدوات –للأسف- تنشيء ملفا تعريفيا (Profiling) عن كل مستخدم لها وتحفظ تاريخ تساؤلاته.
فوق ذلك، يتمتع ChatGPT-4 بطبقات نصية وصوتية أكثر طبيعية وتشبها بالإنسان من سابق نسخه، فيهن التبسط والتعاطف والمزاح والسخرية، وبهكذا سمات يجده الطلاب ماتعًا، متفهما لهم، ويمنحونه من الوقت أكثر مما يمنحونه للأساتذة في القاعات ومناهجهم المتكلسة!
ثم يزيد مع الوقت، ارتباطهم العاطفي إلى ChatGPT-4 ، وكذلك اطمئنانهم له ولمخرجاته الدقيقة، وأثناء هذه العملية، تبهت صورة الأستاذ المسكين وتذهب فرادته العلمية وتميزه!
ذلك من ناحية الطالب، أما من ناحية الأستاذ، فالوضع أسوأ، خاصة إذا شرع في استخدامه لتصحيح أعمال الطلاب ورصد درجاتهم! تخيل أستاذًا غير واثق أصلا أنه يصحح أعمال إنسان مجتهد، أم عمل آلة مجنونة؟ تخيله يقيمه ويرصد درجاته، وينقله من مستوى إلى آخر في غياب حوكمة استخدام هذه الأدوات ومساءلتها في المؤسسات التعليمية، وهذا فت في عضد تقييم المعرفة وإكسابها وتخريج حائزها وهي من جوهر وظائف أي جامعة في الدنيا.
ثم يكون السؤال الرهيب أمام مجتمع الجامعات كلها، أنه إذا كان المنوط بالتعليم العالي إكساب الإنسان المتعلم مهارات جديدة، وتوسيع مداركه في فهم العالم، ثم الدفع بالمتعلمين إلى توسيع حدود المعرفة البشرية عبر النقد والمساءلة والبحث العلمي والابتكار، فكيف نفعل إذا كانت الآلة اليوم تقوم بكل ذلك؟
ألم تتعلم الآلة؟ ألم تكتسب مهارات إدراكية واستشرافية تفوقت بها على الإنسان؟ ألم يصبح
ChatGPT كاتبا أصيلًا مقبولاً في كثير من الأوراق العلمية اليوم؟
ماذا عن أدوات أخر كثيرة للذكاء الاصطناعي قيد الاستخدام اليوم، كـ Google DeepMind’s LYNA، و
ProFound Ai و Grail Test ، ألم تتفوق كلها على العلماء والأطباء في الاستكشاف والتشخيص المبكر للأورام والأمراض وتتبعها؟
باختصار، لامناص من الاعتراف أن التحديات التي تواجهها مؤسسات التعليم العالي في تبني تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأدواته وحوكمتها بالغة التعقيد، ولا مناص من الاعتراف أن الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف التعليم العالي نفسه اليوم، وكذلك غرضه وجدته ونفعه، وعلينا أن ندرك أن التعليم لم يعد بعد بزوغ أدوات هذا الذكاء الاصطناعي كمثله قبلها، وأنه ربما نعيش من حيث لا نشعر، بإزاء حضارة جديدة موازية .. تبنيها الآلات!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال