الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا شك أن التوجه نحو استقطاب الكفاءات في القطاع الحكومي يمثل خطوة استراتيجية تعكس وعي الدولة بأهمية تطوير رأس المال البشري، كأحد أبرز ممكنات النمو الاقتصادي والإداري. وقد أتاح بند الكفاءات مرونة تنظيمية مهمة للجهات الحكومية، بما يمنحها قدرة أكبر على استقطاب الخبرات النوعية خارج النماذج الوظيفية التقليدية. هذا التمكين المؤسسي، حين يُمارس وفق معايير دقيقة وشفافة، يعزز من كفاءة الإنفاق العام، ويُسهم في تحسين أداء الأجهزة الحكومية ورفع كفاءتها الإنتاجية، مما ينعكس بدوره على جودة القرارات وسرعة تنفيذ المشاريع، ويرتبط مباشرة بقدرة الدولة على تحقيق مستهدفاتها التنموية بكفاءة عالية.
كما أن وجود الكفاءات الفعلية في المواقع الاستراتيجية داخل الجهات الحكومية يصنع فارقًا ملموسًا في الأداء، إذ تبرز نتائجهم من خلال تقديم حلول متقدمة، وإدارة موارد الدولة بشكل ذكي، وقيادة التحول الإداري بفعالية. إلا أن الممارسة الميدانية تكشف أحيانًا عن خللٍ لا يرتبط بالنظام أو بالجهات، بل بطريقة توظيف هذا البند لبعض الأفراد الذين يُروّجون لأنفسهم في المجالس والمؤتمرات بلغة مهنية منمقة، بينما يفتقرون في الواقع إلى أدوات المعرفة والتمكن الفعلي. وتزداد المسألة تعقيدًا حين يُوكل إليهم مهام لا يباشرونها بأنفسهم، بل يطلبون من زملاء أقل مرتبة في الوظيفة تقديم العروض والاجتماعات نيابة عنهم، تحت مظلة عبارة “تمكين الفريق”، في حين أن هذا السلوك في بعض الحالات – وليست جميعها- لا يعدو كونه وسيلة للتهرب من مواجهة الأسئلة الفنية التي قد تُظهر بوضوح الفجوة بين الوصف الوظيفي والإنتاج الفعلي. ومن هنا يظهر أثر اقتصادي غير مباشر يتمثل في دفع رواتب مرتفعة دون مردود حقيقي، بل وربما على حساب إنتاجية موظفين آخرين أكثر كفاءة، ولكنهم أقل ظهورًا.
لذلك فإنه من المناسب، من منظور قانوني وتشريعي، اقتراح نموذج نظامي لتقييم الجدارة المهنية يركز تحديدًا على فئة الكفاءات، ويتكوّن من مرحلتين متكاملتين؛ الأولى تُجرى قبل التعاقد لقياس مدى تأهيل المرشح، وقدرته على تقديم قيمة نوعية مضافة للجهة والوطن؛ ويراعى ضمن التقييم الأولي قياس السمات القيادية والسلوكية المهنية للمرشح، من حيث قدرته على العمل بروح الفريق، والتعامل بإيجابية واحترام، وتحمل المسؤولية بروح القائد لا بروح الاستعلاء والفردية. أما المرحلة الثانية تُنفذ بشكل سنوي، لقياس جودة المخرجات الوظيفية وربط الأداء الفردي بالأثر الاقتصادي والمؤسسي، ومستوى التطور المعرفي خلال السنة الماضية. وتكمن الأهمية في أن يرتبط هذا التقييم بمنصة موحدة تُعنى بتوثيق أداء الكفاءات المتعاقد معها في كافة الجهات الحكومية، بحيث تحتوي على بيانات تفصيلية تشمل مؤشرات الإنجاز لكل فرد، وسجلات التوصيات المنفذة، والتأثير المالي والإداري لكل متعاقد، وتكون هذه المنصة تحت إشراف تنظيمي مشترك، وتُستخدم كمرجع موضوعي لاتخاذ قرارات التجديد أو الإلغاء، بناءً على الكفاءة الحقيقية لا على الانطباع أو المجاملة.
ختامًا، إن بند الكفاءات ليس مجرد مسار توظيف استثنائي، بل هو أداة تمكين اقتصادي إذا أُحسن استخدامه، ورافعة مؤسسية تُسهم في تحسين جودة الحوكمة متى ما اقترنت بالمساءلة والشفافية. وإن تعزيز هذا البند بأنظمة تقييم قانونية وتشريعية واضحة، وربطه بتقارير مالية وأثر اقتصادي، سيضمن استدامة أثره وفاعليته، ويحوّله من بند مرن إلى مسار احترافي قادر على تمكين الجهاز الحكومي، وحماية المال العام، وتعزيز ثقة المجتمع في كفاءة الأداء الإداري للدولة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال