الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عند هبوب رياح الأزمات، لا تتحرك الأسواق بمنطق الأرقام وحده، بل تنساق وراء الخوف. فجأة، يتحول الاقتصاد من جداول وتحليلات إلى سلوك جماعي يسلك مسارات غير متوقعة: يتهافت الناس على شراء السلع، أو يسحبون مدخراتهم، أو يبيعون أسهمهم، لا استنادًا إلى معطيات الاقتصاد، بل لأن مشاعر القلق تتقدم على كل حساب. في مثل هذه اللحظات، يتحول الاقتصاد السلوكي من حقل نظري إلى أداة لا غنى عنها لفهم السلوك الجمعي وردود الفعل الجماعية.
وحين يسبق الخوفُ المنطق، كما في قصة ناثان روتشيلد مع بورصة لندن عام 1815 عقب معركة واترلو، تظهر أهمية التوقيت والمعلومة. امتلك روتشيلد شبكة معلومات أسرع من الجميع. وحين وصلته أخبار انتصار بريطانيا على نابليون، لم يُطلق احتفالًا، بل بدأ ببيع الأسهم في بورصة لندن. راقبه الآخرون وقلّدوه، فباعوا بدورهم بأسعار متدنية. وفي لحظة واحدة، تحوّل الذعر إلى حركة قطيع. بعد ذلك مباشرة، بدأ رجاله بشراء الأسهم سرًا، فجمع ثروات طائلة في يوم واحد.
لم يكن انتصاره بالمعلومة وحدها، بل بقدرته على استباق السلوك الجماعي حين تسبق العاطفةُ المنطق، وحين يقود الخوفُ السوق لا العقل.
وبهذا، لم يعد ناثان مجرد رجل أعمال بارع، بل غدا أحد أعمدة الاقتصاد الأوروبي، لا بثروته فقط، بل بقدرته على فهم الناس قبل أن يفهموا أنفسهم.
أما حين غرّد القرار وارتجّت السوق، كما في أبريل 2025، فقد بدا صباح الاثنين عاديًا، حتى خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليعلن فرض رسوم جمركية شاملة على واردات عدد من الدول، وكان المعني بذلك كله الصين. كانت لهجته حادة، ورسائله السياسية لم تكن موجهة فقط للداخل الأمريكي، بل عكست تحدياته الاقتصادية للعالم بأسره، حيث هدفت هذه الإجراءات إلى إعادة توجيه الميزان التجاري بما يخدم مصالح الولايات المتحدة.
لكن الأسواق التقطت شيئًا آخر… الخوف.
في أقل من ساعة، هوى مؤشر “داو جونز” بنحو 900 نقطة، وتبعه ذعر عالمي. لم ينتظر المستثمرون التفاصيل، بل تسابقوا إلى البيع. تحركت الخوارزميات، تضاعفت الأوامر، وزادت التطبيقات من توتر الأفراد بدل تهدئتهم. أما الرقابة، فوثّقت اللحظة لكنها لم تمنعها.
المشهد كان كاشفًا: التكنولوجيا لا تُلغي العاطفة، والأسواق لا تُدار فقط بالحسابات، بل بالانطباعات.
في هذه اللحظة، تجلت جوهرية الاقتصاد السلوكي: فهم ردّ الفعل لا فقط الفعل، وفهم الانطباع قبل القرار.
يظل الخوف مستشارًا غير معلن في الأزمات. ما بين لندن 1815 وواشنطن 2025، ظل الخوف هو المحرك الخفي للأسواق. تتغير الأدوات، وتتطور الأنظمة، وتتوسع الشبكات، لكن السلوك البشري لا يزال ينزلق نحو القطيع حين تُقرع طبول الأزمة.
واليوم، لا تختلف كثيرًا براعة بعض الصناديق والمحافظ الاستثمارية الكبرى عن براعة روتشيلد قبل قرنين. فعند كل اضطراب سلوكي جماعي، تتكرّر اللعبة القديمة بلغة حديثة: تتراجع الأسواق بفعل الخوف، فتتحرك المؤسسات المالية العميقة لاقتناص الفرص، لا عبر رجل واحد، بل عبر شبكات وخوارزميات ترصد الذعر وتحوّله إلى صفقات. وتُستثمر لحظات التراجع في الاستحواذ على شركات كبرى عابرة للقارات بأسعار أقل مما تستحق، في تكرار صامت لدرسٍ سلوكي لم تنتهِ فصوله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال