الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في ظل بيئة عالمية تتجه نحو تفكك سلاسل القيمة، واشتداد الضغوط التضخمية، وتصاعد المنافسة الجيوسياسية على التموضع الاقتصادي، لم يكن أداء المملكة في الربع الأول من عام 2025 مجرد حالة صمود ظرفي، بل تجسيدًا لتحول عميق في هندسة الاقتصاد الكلي. فقد أعادت السعودية تنظيم قواعد النمو من الداخل، ليس عبر تدوير الفوائض النفطية، بل من خلال توسيع قاعدة الإنتاج الحقيقي، وتحفيز القطاعات غير التقليدية، وتنشيط أدوات الاستثمار السيادي ضمن مشروع استراتيجي ممتد يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والسوق وبين السياسة والاقتصاد. سجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نموًا بلغ 2.7%، مدفوعًا أساسًا بارتفاع الأنشطة غير النفطية بنسبة 3.2%، ونمو الأنشطة الحكومية بنسبة 4.2%، مقابل انكماش في الأنشطة النفطية بنسبة 1.4%، ما يعكس انخفاض الحساسية الهيكلية للاقتصاد تجاه تقلبات أسعار الطاقة، وتحول تدريجي نحو اقتصاد متوازن القاعدة. إلا أن عمق هذا النمو يكمن في توزيع مصادره؛ فقد برزت قطاعات مثل السياحة، الترفيه، الصناعات التحويلية، والخدمات التقنية كرافعات أساسية للنمو، مدفوعة باستثمارات مباشرة ناتجة عن المبادرات التنفيذية لرؤية 2030، كبرنامج جودة الحياة، واستراتيجية الصناعات الوطنية، ومشاريع البنية التحتية السياحية الضخمة مثل العلا والبحر الأحمر. ويُذكر هنا أن رؤية 2030 تهدف إلى رفع مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 65%، وجذب استثمار أجنبي مباشر يمثل 5.7% من الناتج بحلول 2030، وهي مؤشرات أداء رئيسية بدأت تتجلى انعكاساتها المبكرة.
هذا النمو المتعدد المحركات لم يكن ليحدث دون توازن نقدي دقيق، إذ بلغ معدل التضخم السنوي 2.1% فقط، وهو من أدنى المستويات في مجموعة العشرين، مقارنة بمتوسط إقليمي يتجاوز 4% في معظم دول الخليج، وأكثر من 7% في بعض الاقتصادات النامية في المنطقة، مما يدل على نجاح السياسة النقدية في احتواء الضغوط السعرية ضمن إطار مستهدف، دون كبح النمو أو إضعاف الطلب الداخلي، لا سيما في ظل ارتفاع أسعار السكن والخدمات الأساسية في اقتصادات مماثلة. على مستوى القطاع الخارجي، ورغم انخفاض الصادرات بنسبة 6%، استطاع الحساب الجاري أن يحقق فائضًا قدره 27.8 مليار ريال، ما يعكس مرونة في الميزان التجاري، وتحسنًا في القدرة التصديرية للقطاعات غير النفطية. وفي الوقت نفسه، بقيت الأصول الاحتياطية مستقرة نسبيًا، مع انخفاض طفيف بنسبة 0.2%، بما يعكس استخدامًا محسوبًا للسيولة الخارجية لدعم الاستقرار النقدي دون المساس بقدرة الدولة على تغطية التزاماتها أو مواجهة تقلبات الأسواق المالية العالمية.
أما في سوق العمل، فقد انخفض معدل البطالة بين السعوديين إلى 7.0%، وهو رقم يحمل في ظاهره دلالة إيجابية، لكنه في عمقه يشير إلى نقلة نوعية في جودة التوظيف. فالنمو الوظيفي في هذه المرحلة جاء مدفوعًا بفرص في قطاعات ذات قيمة مضافة عالية، مثل الأمن السيبراني، الطاقة المتجددة، والإدارة الثقافية، وهي وظائف تتطلب مهارات متخصصة وتعكس تحسنًا في نوعية التوطين، لا كميته فقط. كما أظهرت بيانات الرواتب وتحليلات الإنتاجية تحسنًا نسبيًا في متوسط الأجور للوظائف المستحدثة في القطاع الخاص، ما يعزز الثقة في أن التوطين بدأ يتحول من مجرد امتثال تنظيمي إلى محفز اقتصادي فعلي. ومع التوجه الوطني نحو الوصول بنسبة التوطين إلى 60% في بعض القطاعات النوعية، تزداد أهمية التحول من توطين رقمي إلى توطين نوعي مستدام قائم على الكفاءة والمهارة.
لكن مع هذا التقدم، تظل هناك تحديات مستمرة لضمان استدامة التوطين، منها فجوات المهارات، ضعف الربط بين التعليم وسوق العمل، والاحتياج إلى مراكز تدريب قطاعية متقدمة تستوعب التغير السريع في أنماط التشغيل، خصوصًا في الاقتصاد الرقمي والصناعات الدقيقة. ومن زاوية الاستثمار الأجنبي المباشر، فإن تسجيل نمو بنسبة 13.4% وتدفقات تتجاوز 1,331 مليون ريال في ربع واحد، لا يُعد إنجازًا عدديًا فقط، بل مؤشراً على تحسن التصنيف الاستثماري للمملكة. وما يعزز جاذبية هذا الاستثمار هو توزيعه القطاعي، حيث اتجهت معظم التدفقات نحو الطاقة المتجددة، الخدمات السحابية، التقنية المالية، والخدمات اللوجستية، ما يشير إلى أن الاقتصاد السعودي لم يعد مجرد بيئة للاستثمار في البنى التحتية، بل تحول إلى منصة لاستقطاب استثمارات استراتيجية عالية التقنية. ويُعد قطاع التقنية المالية (FinTech) مثالًا بارزًا على هذا التحول؛ إذ بات يُشكّل أحد أبرز أدوات تعزيز الشمول المالي، وتوفير التمويل المرن للشركات الصغيرة والمتوسطة، ورفع كفاءة المدفوعات الرقمية، في وقت تواصل فيه المملكة بناء واحدة من أكثر البيئات التشريعية تقدمًا في هذا المجال ضمن مبادرة “فنتك السعودية”.
كما أظهرت تحليلات المشروعات المشتركة أن جزءًا مهمًا من هذه الاستثمارات بات مشروطًا بنقل التقنية وتوطين المعرفة التشغيلية، ما يعزز هدف الرؤية في تحويل الاستثمارات الأجنبية إلى أدوات لصناعة القيمة المضافة المحلية. في الأسواق المالية، ورغم التصحيح الطبيعي في السوق الرئيسية “تاسي”، الذي تراجع بنسبة 3%، إلا أن صعود السوق الموازي “نمو” بنسبة 19.4% يعكس انتقال السيولة نحو الشركات الناشئة والقطاعات غير التقليدية، في إشارة إلى تغير سلوك المستثمرين نحو استراتيجيات نمو طويلة الأجل.
هذا الحراك المالي لا ينفصل عن أداء المالية العامة، حيث شهد الربع الأول تسجيل عجز مالي محدود رغم انخفاض الإيرادات النفطية بنسبة 18%، وهو عجز يُفهم لا كخلل تمويلي، بل كأداة استثمار سيادي موجه نحو الإنفاق على الصحة والتعليم، بما في ذلك مشروعات البنية التحتية للمستشفيات ومبادرات إعادة تأهيل المدارس الحكومية. وقد أظهرت بيانات وزارة المالية أن هذا الإنفاق يُتوقع أن يُسهم في تحسين رأس المال البشري، وزيادة العائد الاجتماعي على الإنفاق العام خلال الأجل المتوسط. وتجدر الإشارة إلى أن دولًا متقدمة مثل ألمانيا وكندا اعتمدت نماذج مشابهة للعجز الإنتاجي بعد الأزمات، وهو ما يعزز صحة الخيار السعودي في ظل انخفاض نسب الدين العام وارتفاع كفاءة الإنفاق.
لكن من دون رفع الإنتاجية الكلية، يظل هذا المسار عرضة للتآكل. لذا، فإن التحدي الجوهري القادم يكمن في تعزيز الإنتاجية عبر سياسات واضحة في الابتكار، البحث والتطوير، وتبني تقنيات الجيل الرابع. ومن المقترحات العملية المطروحة: زيادة الإنفاق على الابتكار ليصل إلى 2.5% من الناتج المحلي بحلول 2030، توسيع نطاق الحوافز الضريبية للبحث التطبيقي، وربط الترخيص الصناعي بمؤشرات الابتكار والتقنيات المستخدمة. هذه السياسات لا تسهم فقط في زيادة الناتج، بل في خلق وظائف نوعية برواتب أعلى، وتعزيز الطبقة المتوسطة الإنتاجية.
وفي السياق الجيوسياسي الأوسع، لم يعد موقع المملكة مقتصرًا على دورها كمزود للطاقة، بل باتت تُعاد صياغتها كمحور توازن في شبكة اقتصادية ناشئة تتقاطع فيها التجارة مع التقنية والموارد مع النفوذ. فبينما تتجه الاقتصادات العالمية إلى الاصطفافات التكنولوجية والكتل الجيومالية، تُعيد السعودية تموضعها بهدوء لا كقوة ناقلة للفوائض، بل كقوة صانعة للفرص. إنها لا ترد على العالم، بل تعيد التفاوض معه من موقع مختلف.
وهكذا، لا تُقرأ مؤشرات الربع الأول بوصفها بيانات عابرة، بل كبداية تحول اقتصادي عميق يعيد بناء النموذج من الداخل، ويحوّل السياسة الاقتصادية من إدارة للموارد إلى إدارة للفرص. وفي عالم تتآكل فيه المصداقية الاقتصادية لدى دول كبرى، تبرهن السعودية أن السيادة لا تُقاس فقط بحجم الناتج، بل بقدرتها على صنعه… بطريقة مختلفة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال