الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هل سبق أن اتخذت قرارًا بدا صائبًا في لحظته، ثم راودك الشك لاحقًا؟
هنا تبرز أهمية الاقتصاد السلوكي: علم يبحث في الفجوة بين ما نعتقد أنه قرار عقلاني، وما يكون عليه فعلاً في الواقع. الاقتصاد التقليدي يفترض أن الأفراد يتصرفون بعقلانية تامة. لكن تجارب الحياة اليومية تكشف عن سلوكيات كثيرة لا تخضع لهذا المنطق: نشتري ما لا نحتاج، ونتردد في التراجع عن خيارات غير مجدية، ونتأثر بعوامل لا علاقة لها بالأرقام والمعطيات الموضوعية.
وفي عصرنا الحالي، يظهر تأثير آخر في صناعة قراراتنا. فحتى عندما نعتقد أننا نختار بشكل عقلاني، تدخل أدوات الذكاء الاصطناعي لتقدم لنا اختيارات مدروسة بناءً على بيانات سابقة وسلوكيات مشابهة، .
الاقتصاد السلوكي لا يُناقض هذا النموذج، بل يُكمله. فهو يسلّط الضوء على ما يحدث في أذهاننا عند اتخاذ القرار، متأثرين بعواطفنا، وتحيزاتنا، وعاداتنا الذهنية المتكررة، التي قد لا نعي وجودها أصلًا.
خذ مثلاً:
رغبة البعض في إنهاء وجبة لا يحبونها فقط لأنهم دفعوا قيمتها مسبقًا. تُعرف هذه الظاهرة بـ”مغالطة التكاليف الغارقة”، وهي إحدى أشهر صور السلوك غير العقلاني. مثلها أيضًا:
– التردد في بيع سهم خاسر، حيث لا يستطيع البعض اتخاذ القرار ببيع سهم فقد قيمته، بناءً على أمل غير مبرر في أن السعر سيرتفع مستقبلاً، وهو ما يعكس تأثير “مغالطة التكاليف الغارقة” التي تدفعنا للاستمرار في استثمار أموالنا في شيء لم يعد ذا جدوى. هذه الظاهرة تحدث عندما يصبح القرار عاطفيًا، حيث يُفضل الشخص التمسك بالأمل على الاعتراف بالخسارة الواقعية.
– الاندفاع نحو عروض تسويقية مغرية دون حاجة حقيقية.
الاقتصاد السلوكي يسهم اليوم في فهم أعمق لسلوك الأفراد، وتصميم سياسات واقعية، وتحسين طرق اتخاذ القرار في مختلف المجالات.
الاقتصاد السلوكي لا يقدم وصفًا سطحيًا لسلوكنا، بل يفتح نافذة لفهم دوافعنا الخفية، ويمنحنا أدوات تساعدنا على اتخاذ قرارات أكثر وعيًا. لكن في هذا العالم الذي تتداخل فيه التكنولوجيا مع كل جانب من جوانب حياتنا، تزداد أهمية فهم كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على قراراتنا. وإذا كان الاقتصاد السلوكي يساعدنا في فهم دوافعنا الخفية، فإن إدراكنا لكيفية استغلال هذه الأدوات للبيانات هو خطوة أخرى نحو اتخاذ قرارات أكثر وعيًا. ولكن، هل نستطيع بالفعل السيطرة على قراراتنا عندما تصبح هذه الأدوات جزءًا لا يتجزأ من تفكيرنا؟
فمهما كانت قوة الأدوات والتقنيات المتاحة، فإن القرارات النهائية يجب أن تكون نتيجة للتفكير الواعي والمراجعة الذاتية، وليس محكومة فقط بالأنماط التي تفرضها الآلات. فالتسليم الكامل لإمرة الآلة، وإن كانت موصوفة بالذكاء الاصطناعي، قد يؤدي إلى عواقب كارثية، إذ تظل هذه الآلات صماء عمياء، منزوعة المشاعر، ولا تستطيع إدراك قيمنا الإنسانية أو التفاعل مع تعقيدات السلوك البشري.
تبقى العقول البشرية الأقدر على تقييم العواقب، وتفسير معطياتها، واستبصار النتائج المستقبلية، وصناعة الخيارات التي تخدم مصالحنا الفردية والجماعية، بعيدًا عن التأثيرات المفرطة للتقنيات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال