الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في الوقت الذي تُضاعف فيه المملكة جهودها لترسيخ مكانتها كمركز إقليمي وعالمي للتميز والجودة، انسجاماً مع رؤيتها الطموحة 2030، يتزايد اهتمام المؤسسات بالحصول على اعترافات دولية تُقر بمستوى أدائها. وهنا تبرز أهمية التدقيق والفهم العميق لحقيقة وجودة شهادات الآيزو المتداولة في السوق السعودي والمُقدَّمة للمنظمات. فمن واقع المتابعة لسوق خدمات تقييم المطابقة والاعتماد في المملكة، يتضح أن هناك حاجة ماسة لتعزيز الوعي بالفروقات الجوهرية بين أنواع هذه الشهادات والوثائق. ويعود ذلك بشكل خاص إلى الانتشار المقلق لوثائق تحمل شعار الآيزو، لكنها قد تكون صادرة عن جهات غير معتمدة، أو الأخطر من ذلك، تُمنح كإثبات على “مطابقة” مزعومة لمعايير هي في طبيعتها إرشادية ولم تُصمم أساساً لغرض منح شهادات مطابقة. يهدف هذا المقال إلى توضيح هذه المسألة، وشرح الفارق الجوهري بين شهادة الآيزو المعتمدة وغيرها من الوثائق، لمساعدة المؤسسات على تجنب الوقوع في فخ ما يمكن وصفه بالاعتماد الشكلي.
لفهم دقيق لهذه القضية، لا بد من العودة إلى المصدر وتوضيح دور المنظمة الدولية للتقييس (الآيزو) نفسها. الآيزو هي الجهة العالمية التي تطور وتنشر المعايير الدولية، ومن الأهمية بمكان التأكيد أنها لا تتولى إجراء عمليات التدقيق ولا إصدار شهادات المطابقة للمنظمات. فعملية منح الشهادات تتم عبر جهات مستقلة تمامًا عن الآيزو. تصنف الآيزو معايير أنظمة الإدارة بأسلوب يعكس فلسفة وهدف كل نوع، وتنقسم هذه المعايير بشكل رئيسي إلى فئتين.
الفئة الأولى هي معايير المتطلبات، وهي الفئة الوحيدة المصممة لتكون أساسًا لمنح شهادات المطابقة. تحتوي هذه المعايير على بنود إلزامية واضحة ومحددة تستخدم كلمة “يجب” أو “Shall”. يمكن لجهة تدقيق خارجية مستقلة، شريطة أن تكون معتمدة (Accredited)، التحقق من تطبيق المؤسسة لهذه المتطلبات بموضوعية ومنح شهادة بناءً على ذلك. تشمل الأمثلة البارزة لهذه المعايير ISO 9001 لإدارة الجودة، وISO 27001 لأمن المعلومات، وISO 22301 لاستمرارية الأعمال، وISO 14001 للإدارة البيئية، وISO 45001 للصحة والسلامة المهنية.
أما الفئة الثانية، فهي المعايير الإرشادية، ولهذه الفئة فلسفة مغايرة تمامًا؛ إذ تقدم إطارًا للمعرفة وأفضل الممارسات وتوصيات، مثل معيار ISO 31000 الخاص بإدارة المخاطر، غالبًا باستخدام كلمات مثل “ينبغي” أو “Should”، لمساعدة المؤسسات على تحسين أدائها. فطبيعتها الإرشادية ومرونتها في التطبيق تتعارضان جوهرياً مع فكرة وجود متطلبات صارمة قابلة للتدقيق بهدف إصدار شهادة مطابقة رسمية.
من الممارسات الجيدة والمفيدة أن تسعى المنظمات لتقييم مدى مواءمتها مع المبادئ التوجيهية لمعيار آيزو إرشادي مثل ISO 31000 الذي ذكرناه كمثال، وقد تستعين في ذلك بجهات مستقلة لمساعدتها في هذا التقييم. وفي بعض الأحيان، قد تُصدر هذه الجهات وثيقة تلخص نتائج تقييمها، وقد يُستخدم لهذه الوثيقة مسمى مثل “إشهاد بالمطابقة” (Attestation of Conformity). هنا، من المهم جدًا التأكيد على أن هذا النوع من الإشهاد، مهما كان مسماه، يختلف اختلافاً جذرياً في طبيعته وقيمته ومستوى الاعتراف به عن شهادة المطابقة الرسمية المعتمدة التي تصدر لمعايير المتطلبات من قبل جهة منح شهادات معتمدة. وتقع على عاتق المنظمة التي تحصل على مثل هذا الإشهاد مسؤولية أساسية تتمثل في توضيح طبيعته الحقيقية عند استخدامه، والحرص التام على عدم تقديمه أو التسويق له بأي شكل يوحي بأنه “شهادة آيزو” معتمدة. ويتوجب التأكيد هنا، استناداً إلى تصريحات وبيانات واضحة صادرة عن كل من منظمة الآيزو نفسها والمنتدى الدولي للاعتماد (IAF) – المظلة العالمية لهيئات الاعتماد – أن معايير مثل ISO 31000 هي معايير إرشادية بامتياز، ولم تُصمم إطلاقاً لغرض منح شهادات مطابقة. ويؤكد ذلك بشكل قاطع خلوّ قواعد بيانات المركز السعودي للاعتماد والمنتدى الدولي للاعتماد تمامًا من أي جهة منح شهادات مُعتمَدة لإصدار شهادة لهذه المعايير الإرشادية بعينها. وتمتد المشكلة أيضًا لتشمل شهادات لمعايير متطلبات (كـ ISO 9001) لكنها صادرة عن جهات منح شهادات غير حاصلة على الاعتماد من هيئة اعتماد معترف بها، مما يُضعف مصداقيتها وقيمتها بشكل كبير.
فالانسياق وراء الحصول على مثل هذه “الشهادات” أو “الإشهادات” الشكلية، سواء عن قلة معرفة أو بإغراءات التكلفة المنخفضة والسرعة، قد يعرض المؤسسة لتبعات سلبية متعددة الأوجه. تتعدد هذه التبعات، فمنها احتمالية المساءلة التنظيمية، حيث قد لا تتماشى مثل هذه الممارسات مع الأنظمة المتعلقة بالشفافية التجارية وحماية العلامات التجارية وحقوق المستهلك. يضاف إلى ذلك خطر فقدان المصداقية، وتقويض جهود التحسين الحقيقية، حيث ينصب التركيز على الحصول على الورقة بدلاً من بناء نظام فعال وتطوير ثقافة التميز أو إدارة المخاطر فعليًا.
لتجنب الوقوع في هذه الإشكاليات، ينبغي على الإدارات المعنية بالجودة والتدقيق والامتثال في المؤسسات القيام بواجب التحقق والتدقيق اللازم. يتطلب الأمر أولاً فهم منظومة الاعتماد المتكاملة وأدوار الجهات الفاعلة فيها. من الضروري التمييز بين: أولاً، منظمة الآيزو التي تطور المعايير الدولية، ولكنها لا تمنح شهادات بنفسها. ثانياً، هيئة الاعتماد، كهيئة مستقلة (مثل المركز السعودي للاعتماد أو أي عضو بالمنتدى الدولي للاعتماد) تقيّم وتعتمد جهات منح الشهادات. ثالثاً، جهة منح الشهادات، وهي الشركة التي تُجري التدقيق وتصدر شهادة المطابقة للمؤسسة، ويجب أن تكون هذه الجهة حاصلة على اعتماد ساري المفعول من هيئة اعتماد معترف بها في المجال المطلوب.
يلي ذلك ضرورة التحقق من طبيعة المعيار المطلوب نفسه، هل هو معيار متطلبات قابل للشهادة مثل 9001 أو 27001، أم معيار إرشادي كـ 31000 أو 26000؟ يمكن زيارة موقع الآيزو الرسمي والبحث عن المعيار للتأكد من وصفه والغرض منه. وتتمثل النقطة الأهم في التأكد بشكل قاطع من أن جهة منح الشهادات التي سيتم التعامل معها معتمدة رسميًا من هيئة اعتماد وطنية أو دولية معترف بها في مجال ونطاق المعيار المطلوب تحديداً. لا يكفي الاعتماد على تأكيد جهة المنح بأنها معتمدة، بل يجب البحث ذاتياً في الدليل الرسمي للجهات المعتمدة المنشور على المواقع الإلكترونية لهيئة الاعتماد المعنية (كالمركز السعودي للاعتماد) أو المنتدى الدولي للاعتماد. وأخيراً، ينبغي توخي الحذر من العروض التي تعد بالحصول على الشهادة بسرعة فائقة، بتكلفة منخفضة جدًا، أو بجهد شبه معدوم من المؤسسة، أو تلك التي تجمع بين تقديم الاستشارات ومنح الشهادة من نفس الجهة أو جهات مرتبطة بها، مما يخل بمبدأ الحيادية الضروري في عملية التدقيق.
ختامًا، لا شك أن شهادات الآيزو المعتمدة والصحيحة تضيف قيمة حقيقية وملموسة للمؤسسات؛ فهي لا تقتصر على تعزيز السمعة والثقة داخليًا وخارجيًا، بل تدفع أيضًا نحو تحسين فعلي ومستمر. لكن هذه القيمة لا تتحقق إلا عندما تكون الشهادة تتويجًا لجهد حقيقي وملموس في تطبيق متطلبات معيار قابل للشهادة، وتصدر عن جهة منح شهادات معتمدة وموثوقة. فقد أصبح التمييز بين الاعتماد الحقيقي والوهم الشكلي ضرورة ملحة لحماية مصداقية السوق ودعم جهود التميز في المملكة. وعلينا جميعًا، مؤسسات وجهات رقابية ومجتمع مهني، العمل معًا لضمان أن تظل شهادة الآيزو رمزًا للجودة الحقيقية والالتزام الملموس، لا مجرد شعار شكلي يُخفي وراءه واقعًا مختلفًا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال