الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم يزداد وعيًا بأهمية التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، يبرز الاقتصاد الأخضر كرؤية ملهمة، ترسم لوحة مستقبلية تجمع بين الابتكار والاستدامة. إنه ليس مجرد نهج اقتصادي، بل هو أسلوب حياة يعيد تشكيل الطريقة التي ننتج بها، نستهلك، ونعيش. الهدف هو تحقيق “صافي الصفر”، وهو الطموح الذي يسعى إلى تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة إلى الحد الأدنى، مع تعويض ما تبقى عبر تقنيات مثل التشجير أو احتجاز الكربون. هذا التحول يفتح أبوابًا لفرص اقتصادية هائلة، من خلق وظائف جديدة إلى تطوير تقنيات مبتكرة.
الاقتصاد الأخضر يمثل فرصة لإعادة صياغة النمو الاقتصادي بطريقة تحترم حدود كوكبنا. تقرير الأمم المتحدة لعام 2023 يشير إلى أن التحول إلى الاقتصاد الأخضر يمكن أن يوجد 24 مليون وظيفة جديدة بحلول 2030، خاصة في قطاعات مثل الطاقة المتجددة، البناء المستدام، والزراعة الذكية. هذه الأرقام تعكس إمكانات هائلة، لكنها تتطلب استثمارات كبيرة. وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، يحتاج العالم إلى 6.9 تريليون دولار سنويًا حتى 2030 لتحقيق أهداف الاستدامة. هذه الاستثمارات ليست مجرد أرقام، بل هي بذور لمستقبل مزدهر. في أوروبا، يقود الاتحاد الأوروبي هذا التحول من خلال “الصفقة الخضراء الأوروبية”، التي تخصص تريليون يورو بحلول 2030 لتعزيز الطاقة النظيفة والاقتصاد الدائري. هذا المشروع يحفز الابتكار، حيث زادت قدرة الطاقة الريحية في أوروبا بنسبة 15% في عام 2023، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية.
في الولايات المتحدة، تتألق تجربة قانون الحد من التضخم لعام 2022، الذي خصص 369 مليار دولار للطاقة النظيفة. هذا الاستثمار أدى إلى زيادة قدرة الطاقة الشمسية بنسبة 24% في عام 2023، مما أوجد آلاف الوظائف في قطاعات التصنيع والتركيب. هذه الخطوة تعكس كيف يمكن للاقتصاد الأخضر أن يحقق نموًا اقتصاديًا مع تحسين جودة الحياة. أما في الصين، التي تمتلك 55% من القدرة العالمية للطاقة المتجددة، فإنها تضع معايير جديدة في الابتكار. في عام 2023، أضافت الصين 180 جيجا واط من الطاقة الشمسية والريحية، أي ما يعادل ضعف القدرة المضافة في الولايات المتحدة. هذه الأرقام تروي قصة طموح يدفع الاقتصادات إلى الأمام.
وفي قلب الخليج، تبرز المملكة العربية السعودية كنموذج ملهم في الاقتصاد الأخضر، رؤية 2030. هذه الرؤية، التي أطلقت في 2016، تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتعزيز الاستدامة. المملكة تسعى إلى تحقيق صافي الصفر بحلول 2060، مع استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر. مبادرة السعودية الخضراء، التي أطلقت في 2021، تشمل 85 مشروعًا بقيمة 188 مليار دولار، منها مشروع نيوم للهيدروجين الأخضر، الذي سيبدأ بإنتاج 600 طن يوميًا بحلول 2026، ليكون الأكبر عالميًا. هذا المشروع يعكس التزام المملكة بقيادة ثورة الطاقة النظيفة. دراسة نشرت في مجلة “ساينس دايركت” عام 2023 أشارت إلى أن المملكة تمتلك إمكانات هائلة لتصبح مركزًا عالميًا للهيدروجين، بفضل وفرة الطاقة الشمسية وموقعها الاستراتيجي. كذلك الأنشطة غير النفطية تشكل الآن 52% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة قياسية، وفقًا لمنتدى دافوس الاقتصادي 2025. مشاريع مثل “الرياض الخضراء”، التي تهدف إلى زراعة 7.5 مليون شجرة، و”البحر الأحمر”، الذي يعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 100%، تعزز من جاذبية المملكة كوجهة مستدامة. هذه المبادرات لا تعزز البيئة فحسب، بل تخلق فرصًا اقتصادية، حيث يتوقع أن تسهم مشاريع السياحة المستدامة بـ 150 مليار ريال في الاقتصاد بحلول 2030.
على المستوى العالمي، تتألق تجارب أخرى تضيء الطريق. في اليابان، يدفع نقص الموارد الطبيعية نحو الابتكار. استثمرت اليابان 155 مليار دولار في 2023 لتطوير تقنيات الهيدروجين والطاقة المتجددة، مما عزز مكانتها كرائدة في التكنولوجيا النظيفة. في الهند، التي تشهد نموًا اقتصاديًا سريعًا، يتم التركيز على الطاقة الشمسية، حيث أضافت 14 جيجاوات من القدرة الشمسية في 2023، وفقًا لتقرير وكالة الطاقة الدولية. هذه الجهود تعكس تنوع السبل التي يمكن أن يسلكها الاقتصاد الأخضر.
الابتكارات المالية تلعب دورًا محوريًا في تمويل هذا التحول. السندات الخضراء، التي جمعت 600 مليار دولار عالميًا في 2023، أصبحت أداة رئيسية. في المملكة، أصدرت شركة الكهرباء السعودية سندات خضراء بقيمة 1.3 مليار دولار في 2023، موجهة لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة. هذه الأدوات تعكس كيف يمكن للقطاع المالي أن يكون شريكًا في بناء الاقتصاد الأخضر. النرويج، التي تولد 98% من كهربائها من مصادر متجددة، تقدم نموذجًا ملهمًا. استثماراتها في الطاقة المائية والريحية جعلتها رائدة.
التقنيات الحديثة تضيف ألوانًا جديدة إلى هذه اللوحة. تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه تتطور بسرعة، حيث أصبحت أكثر كفاءة، مما يدعم جهود الدول في تقليل الانبعاثات. في أستراليا، تضاعفت مشاريع احتجاز الكربون في 2023، مما يعزز مكانتها كمركز للابتكار البيئي. كذلك، فإن الزراعة المستدامة، التي تستخدم تقنيات مثل الري الذكي، تشهد نموًا عالميًا، حيث زادت الاستثمارات في هذا القطاع بنسبة 20% في 2023، وفقًا لتقرير البنك الدولي.
وفي الختام؛ الاقتصاد الأخضر هو دعوة للإبداع، حيث يلتقي الطموح البشري مع المسؤولية تجاه الأرض. المملكة، من خلال رؤية 2030، تقدم نموذجًا يجمع بين التراث والابتكار، حيث تحول مواردها الطبيعية إلى فرص للنمو المستدام. العالم، من أوروبا إلى آسيا، يشارك في هذه الرحلة، كلٌ بطريقته الفريدة. إنه حلم يتجاوز الحدود، يعيد تعريف الرفاهية بمعايير تحترم كوكبنا. في النهاية، الاقتصاد الأخضر ليس مجرد هدف اقتصادي، بل هو وعد بحياة أفضل، لوحة مرسومة بألوان الأمل والابتكار، تنتظر منا جميعًا أن نسهم في إكمالها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال