الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في الذكرى التاسعة لإطلاق رؤية السعودية 2030، أكد ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – أن المملكة ماضية بعزم لا يلين نحو مضاعفة الجهود وتسريع الإنجاز لتحقيق أهداف الرؤية، وتعزيز مكانتها عالميًا.
وتتجلى في قلب هذه الرؤية الطموحة أهمية التعليم بوصفه ركيزة لبناء الإنسان المنتج، القادر على قيادة التحولات الكبرى وصناعة مستقبل أكثر إشراقًا للوطن والأمة.
لقد تغيّر مفهوم التعليم في العصر الحديث؛ فلم يعد مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل غدا حجر الزاوية في تمكين الإنسان وإطلاق طاقاته الخلّاقة. ولم يعد كافيًا الاكتفاء بتطوير المناهج أو ترشيد الهياكل، بل أصبح من الضروري تبني إصلاح تشريعي شامل يعيد صياغة المنظومة التعليمية، لتكون رافدًا رئيسيًا للتنمية المستدامة، ومصدرًا لصناعة الإنسان القادر على استثمار الفرص ومواكبة المتغيرات.
ومنذ تأسيسها، أولت المملكة العربية السعودية التعليم أولوية استراتيجية، باعتباره محركًا أساسيًا للتنمية الوطنية. وقد أثمرت هذه الجهود نقلات كمية ونوعية رسّخت دور التعليم في دعم النهوض الاجتماعي والاقتصادي. غير أن المرحلة الحالية، بما تحمله من تحولات متسارعة، تستدعي مراجعة جذرية تتجاوز الإصلاحات الشكلية، نحو بناء إطار تشريعي وتنظيمي مرن وشامل، يستجيب لمتطلبات العصر، ولا يقتصر على تلبية سوق العمل التقليدي.
ويُعد اعتماد الاستراتيجية الوطنية للتعليم التي صدر بشأنها توجيه سامٍ خطوة محورية لإعادة تشكيل منظومة التعليم بما يواكب التحولات الوطنية والعالمية، ويعزز كفاءتها ومخرجاتها. ويُؤمل الإسراع في إقرارها لتفادي اتساع الفجوة بين الطموحات الوطنية والقدرات المؤسسية على التفعيل، وضمان حماية مكتسبات التقدم من التآكل أو التعثر.
ويعزز أهمية هذا التوجه ما أشار إليه التقرير السنوي لرؤية السعودية 2030 لعام 2024، من أن تسارع التحولات الاقتصادية يتطلب تطوير رأس المال البشري، لا سيما في قطاعات الاقتصاد الرقمي، والخدمات اللوجستية، والتقنيات المتقدمة. فلم تعد مخرجات التعليم تُقاس بمدى ارتباطها بالتوظيف فقط، بل أصبحت عاملًا حاسمًا في رفع الإنتاجية، وتوسيع قاعدة الاقتصاد غير النفطي، وتعزيز تنافسية المملكة عالميًا.
وفي هذا الإطار، يمثل إصلاح البنية التشريعية للتعليم أولوية وطنية، لضمان انسجام السياسات التعليمية مع مستهدفات الرؤية التنموية، وتعزيز مبادئ الحوكمة والمساءلة، وتحويل التعليم إلى استثمار طويل الأمد في بناء الإنسان المنتج، القادر على التكيّف مع المتغيرات والمساهمة الفاعلة في مسارات النمو والتحول الوطني.
وقد حققت المملكة تقدمًا ملموسًا في تطوير التعليم، وقفزت في مؤشرات التنافسية الدولية بحسب تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي والبنك الدولي، إلا أن تسارع المتغيرات يفرض مراجعة مرنة ودورية لهذه الأطر، تحت إشراف رقابي مستقل يضمن مواكبتها لمستهدفات التنمية.
وفي مقدمة الخطوات التشريعية التي باتت ضرورة، تبرز الحاجة المُلِحّة إلى اعتماد نظام تعليمي موحد، يحدد بوضوح الصلاحيات والمسؤوليات بين الجهات التنظيمية والتنفيذية، ويؤسس لبيئة تشريعية مرنة قابلة للتحديث الدوري، تستوعب التحولات المتسارعة محليًا ودوليًا. ويستتبع ذلك ضرورة مراجعة السياسة العامة للتعليم الصادرة عام 1390هـ (1970م)، التي لم تعد مواكِبة لتطورات العصر، والعمل على تطويرها وربطها عمليًا بمستهدفات الرؤية، وبناء الإنسان المنتج، واحتياجات سوق العمل، وقيم المواطنة والانفتاح الواعي على العالم.
ويُعد تطوير منظومة تقويم التعليم وربطها تشريعيًا بمسارات تطوير إلزامية أحد مفاتيح الإصلاح، وذلك من خلال تعزيز صلاحيات هيئة تقويم التعليم والتدريب، وجعل تقاريرها أداة ملزمة لتحسين جودة الأداء، تقود إلى قرارات واضحة تستند إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس والمساءلة، لا مجرد توصيات استشارية.
كما أن بناء بيئة تعليمية جامعية محفزة يتطلب إعادة هيكلة البرامج الأكاديمية وتوحيدها بين الجنسين ضمن أطر متكافئة في الطرح والمحتوى والمخرجات، بما يعكس واقع سوق العمل المختلط. فمن غير المنطقي أن تُعدّ المؤسسات التعليمية مخرجاتها للاندماج في بيئات عمل متنوعة، بينما تظل البيئات التعليمية مفصولة في برامجها أو غير موحدة في معاييرها. إن دمج الطلاب والطالبات في المسارات الأكاديمية والتخصصية هو ما تعتمده دول العالم المتقدم، ليس فقط لمواءمته مع متطلبات المهنة، بل لأنه يعزز من الكفاءة التعليمية، ويعكس مبدأ تكافؤ الفرص، ويجهز الخريجين لواقع اقتصادي واجتماعي لا يفصل بين الجنسين في الممارسة أو الإنجاز.
ولتحقيق الاستدامة وتوسيع خيارات التمويل، تبرز الحاجة لتحويل برنامج إقراض المشروعات التعليمية التابع لوزارة المالية إلى صندوق مستقل يُعنى بدعم التعليم الأهلي، وتوفير مصادر تمويل مرنة للنمو والتوسع، مستفيدًا من نماذج ناجحة مثل صناديق التعليم في سنغافورة وماليزيا، التي ساهمت في تحسين جودة القطاع، دون تحميل الميزانية العامة أعباء إضافية.
أما المناهج الدراسية، فهي تمثل القالب الأول لتشكيل عقلية الطالب، وبناء قدرته على الفهم والإبداع. لذا، فإن إدراج المهارات الحياتية، وريادة الأعمال، ومفاهيم الذكاء الاصطناعي والبرمجة، لا يجب أن يُنظر إليه كإضافة معرفية، بل كجزء من منهجية تعليمية تزرع في الطالب أدوات التفكير المستقل وروح المبادرة. وفي هذا السياق، تُصبح الحاجة ماسة إلى إعادة تصنيف المقررات النظرية غير المرتبطة بإنتاجية الفرد كمقررات اختيارية، على غرار التجارب التعليمية الرائدة، بما يعزز التوجه نحو التخصصات التطبيقية ذات القيمة الاقتصادية العالية.
وتبرهن تجارب دول رائدة كسنغافورة وماليزيا أن الإصلاح التشريعي يشكل قاعدة الانطلاق لتحول تعليمي حقيقي. ففي سنغافورة، مكّن تحديث التشريعات من مواءمة المناهج مع سوق العمل العالمي، مما رفع مؤشرات التوظيف والابتكار إلى مستويات عالمية. أما في ماليزيا، فقد عززت التشريعات استقلال الجامعات، وربطت اعتماد برامجها بالتطور الاقتصادي، بما ساعد على تحسين المخرجات التعليمية وتحقيق تنمية بشرية مستدامة.
وفي السياق السعودي، فإن الحفاظ على زخم التقدم في مجالات الرقمنة، وتمكين المرأة، وتعزيز التنافسية الاقتصادية، يمرّ عبر بناء منظومة تعليمية تشريعية عصرية، تُنتج الإنسان القادر على تحويل التحديات إلى فرص، وقيادة المستقبل بثقة وكفاءة.
فالتعليم ليس ترفًا تنمويًا، بل هو القاعدة التي تُبنى عليها طموحات الدول، وترتكز عليها قدرتها على الصمود والابتكار. وفي عصر التحولات السريعة، لا يمكن للتعليم أن يؤدي دوره المحوري ما لم يُعاد تشكيل إطاره التشريعي وفق رؤية وطنية شاملة، تواكب التحولات وتستبق التحديات.
إن إصلاح التعليم تشريعيًا هو استثمار في مستقبل الوطن، وبناء لإنسان منتج لا يكتفي بالتكيّف مع الواقع، بل يصنعه ويوجهه. تعليم يُحفّز على التفكير النقدي، ويغرس روح المبادرة، ويُخرج أجيالًا تمتلك أدوات القيادة والمنافسة في ميادين الاقتصاد والمعرفة.
فبإنسانها المنتج، وبمنظومتها التشريعية المتجددة، تمضي المملكة نحو بناء اقتصاد معرفي تنافسي، وتصنع نموذجًا عالميًا في توظيف التعليم كأداة للتحول الوطني. وبذلك، تُثبت المملكة أن بناء الإنسان المنتج هو أعظم استثمار في مستقبلها، وأقوى دعائم نهضتها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال