الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تشهد المملكة العربية السعودية تحولات اقتصادية كبرى في إطار رؤية 2030، ومع هذه التطورات، تظهر الحاجة الملحة إلى تطوير منظومة التحكيم بما يعزز مناخ الاستثمار ويجسّد التقدم التشريعي والمؤسسي الذي حققته المملكة وتسعى إلى ترسيخه. فالتحكيم يُعد وسيلة فعالة لتسوية المنازعات ولاسيما ذات الطابع التجاري والمالي، تُسهم في تخفيف الضغط على النظام القضائي، وتوفير بيئة قانونية أكثر جاذبية للمستثمرين المحليين والدوليين.
وقد بدأت المملكة مبكرًا في تنظيم التحكيم، حيث وردت أولى الإشارات إليه في النظام التجاري الصادر عام 1350هـ، ثم أُدرج في نظام الغرف التجارية عام 1368هـ. وجاء اعتماد المملكة لنظام خاص بالتحكيم عام 1403هـ، ثم تحديثه في عام 1433هـ، ليعكس إهتماماً متزايدًا بالتحكيم كوسيلة فعالة لتسوية النزاعات خارج القضاء التقليدي. ومع إطلاق رؤية السعودية 2030، زادت الحاجة إلى تطوير هذا النظام، ليس فقط لمواكبة التطورات الاقتصادية، بل أيضًا لتعزيز جاذبية المملكة كمركز إقليمي ودولي للتحكيم، خصوصًا في ظل تنامي الاستثمارات الأجنبية والمعاملات الدولية.
وأحرزت المملكة تقدمًا ملموسًا في مجال التحكيم على المستوى الدولي، من خلال انضمامها إلى اتفاقية نيويورك الخاصة بالاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، والعديد من الاتفاقيات الدولية الثنائية، وإنشاء المركز السعودي للتحكيم التجاري، وتعزيز البيئة القانونية الداعمة لبدائل تسوية المنازعات.
وبالرغم من ذلك، فإن التجربة العملية بعد صدور نظام التحكيم عام ١٤٣٣هـ كشفت عن عدد من التحديات الهيكلية والتشريعية، التي تدعو إلى مراجعة بعض النصوص القائمة، وتحديث الإطار التنظيمي بما يتسق مع أفضل الممارسات الدولية.
ومن أبرز هذه التحديات ما يرتبط بحرية الأطراف في تشكيل هيئة التحكيم أو ما يسمى استقلالية الأطراف (Party Autonomy)، حيث يقيد النظام الحالي اختيار المحكم أو رئيس الهيئة باشتراط المؤهل في الشريعة أو القانون حيث نصت الفقرة رقم (٣) من المادة الرابعة عشرة من نظام التحكيم على “أن يكون حاصلاً على الأقل على شهادة جامعية في العلوم الشرعية أو النظامية، وإذا كانت هيئة التحكيم مكونة من أكثر من محكم فيكتفى توافر هذا الشرط في رئيسها”، وهو قيد لا يراعي بالضرورة طبيعة النزاع أو متطلبات التحكيم الدولي. وانطلاقًا من مبادئ الكفاءة والحياد، يُوصى برفع هذا القيد، واستبداله بمعيار موضوعي يرتكز على الخبرة المهنية والاستقلالية، بما يمنح الأطراف حرية أوسع في اختيار المحكمين، أسوة بالممارسات التشريعية المتقدمة في مجال التحكيم ومنها القانون الإنجليزي للتحكيم لعام 2024، الذي تبنّى نهجًا مرنًا يعزز استقلالية الأطراف.
كما أن نظام التحكيم الحالي، رغم تقليله للتدخل القضائي، لا يزال يتيح للمحاكم صلاحيات جوهرية مثل تعيين المحكم أو إصدار التدابير الوقتية دون تحديد آجال زمنية ملزمة، مما قد يؤدي إلى تعطيل الإجراءات. ولهذا، فإن تقنين مبدأ “عدم التدخل إلا بنص” أو ما يسمى دور القضاء المساند (The Supportive Role of Courts )، يمثل خطوة أساسية نحو نظام أكثر اتساقًا، على غرار ما هو معمول به في قانون الأونسيترال النموذجي. ويتكامل ذلك مع إنشاء دوائر متخصصة في محاكم الاستئناف للنظر في منازعات التحكيم وطلبات هيئات التحكيم، مع تأهيل قضاة هذه الدوائر عبر برامج تدريبية متخصصة في التحكيم التجاري الدولي، لتعزيز جودة قراراتهم واتساقها مع القواعد القانونية الدولية.
ومن الأوجه الأخرى التي كشف الواقع العملي الحاجة لتطويرها، غياب الجداول الزمنية الملزمة في مراحل التحكيم، كمرحلة تشكيل الهيئة أو إصدار الحكم، ما يؤثر على كفاءة النظام. لذا، يُوصى بتضمين نصوص تلزم أطراف التحكيم باتباع جداول زمنية معقولة، مستوحاة من الأنظمة المقارنة، بما يحقق التوازن بين المرونة والانضباط الإجرائي.
وفي جانب تنفيذ أحكام التحكيم، وعلى الرغم من التحسن بعد انضمام المملكة لاتفاقية نيويورك وبعد صدور نظام التحكيم الحالي، فإن بعض المحاكم لا تزال تستخدم تفسيرًا فضفاضًا لعبارة “مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية” ، مما قد يحدّ من فاعلية النظام وضعف جاذبيته. ولذلك، يقترح وضع تعريف قانوني دقيق لهذا المصطلح لغرض تطبيق نظام التحكيم، يحد من الاجتهادات المتفاوتة، كما يقترح تقليص المهلة المقررة لرفع دعوى البطلان إلى ثلاثين يومًا، بما ينسجم مع أفضل الممارسات الدولية.
وفي هذا الخصوص، يُشار إلى موافقة مجلس الشورى في عام 2024م على ملاءمة دراسة مقترحين تشريعيين مقدّمين من أستاذنا القدير الدكتور أيوب الجربوع وتلميذه وزميله كاتب هذا المقال لتعديل عدد من مواد نظام التحكيم الحالي، يهدفان إلى تعزيز استقلالية الأطراف، وتوسيع حرية اختيار المحكمين، والسماح باستخدام الوسائل الإلكترونية في التبليغات، وتعديل صياغة بعض المفاهيم القانونية بما يقلل من التفاوت في التفسير، ويزيد من وضوح التطبيق، ويعزز العدالة الإجرائية. ويُعد هذان المقترحان خطوة تأسيسية نحو إصلاح أشمل يواكب المتغيرات التشريعية والاقتصادية في المملكة.
ولعل من نافلة القول، ومن باب الاستفادة من التجارب الدولية الرائدة، الإشارة إلى التجربة الإنجليزية مع قانون التحكيم الجديد (The English Arbitration Act 2025)، الذي تبنّى نهجًا مرنًا يعكس تطورات الواقع الاقتصادي والتقني، ويعزز كفاءة النظام التحكيمي. إذ ركز المشرّع الإنجليزي على تمكين الأطراف، ومنحهم حرية أوسع في تشكيل هيئة التحكيم عبر إزالة القيد المتعلق بالمؤهلات الرسمية للمحكمين، والاكتفاء بمعايير الخبرة والنزاهة، مما يسهم في مواءمة التشكيل مع طبيعة النزاعات المتخصصة والمعقدة. كما حصر القانون الجديد تدخل المحاكم في نطاق ضيق، وألزمها بآجال محددة للفصل في الطلبات المرتبطة بالإجراءات التحكيمية، تعزيزًا لاستقلالية التحكيم وسرعته. وشملت الإصلاحات أيضًا تطوير وسائل التبليغ، واعتماد إدارة الجلسات إلكترونيًا، وتعزيز قواعد السرية، بما يتماشى مع بيئة الأعمال الرقمية. وتمثل هذه التعديلات نموذجًا متقدمًا لإعادة هيكلة قواعد التحكيم بطريقة تحقق العدالة الإجرائية دون الإخلال بالمرونة، وهي المبادئ ذاتها التي يُؤمل أن يسترشد بها أثناء مراجعة وتطوير نظام التحكيم الحالي في المملكة.
ختاماً، يمكن القول بأن تطوير نظام التحكيم في المملكة بات ضرورة تستدعيها التحولات الكبرى التي تقودها رؤية السعودية 2030. ومع تصاعد مكانة المملكة كمركز إقليمي وعالمي للاستثمار، أصبح من الملحّ أن يتمتع نظام التحكيم بخصائص الفعالية والكفاءة والجاذبية، والتكامل مع البيئة القانونية الحديثة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال