الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم تعد البنوك وحدها من تملك مفاتيح التمويل، ولم تعد الجدارة الائتمانية أو الراتب الثابت هي تذكرة الدخول لعالم القروض والدعم. هناك موجة جديدة بدأت تتشكل، لا تعتمد على “من يملك”، بل على “من يحدث فرقا”. إنها موجة التمويل القائم على الأثر الاجتماعي، التي تمنح الأموال لا لمن يطلبها فقط، بل لمن يقنع بأنه سيغير شيئا للأفضل.
في السابق، كان الحصول على تمويل يعني المرور بسلسلة طويلة من التقييمات المالية الجامدة: راتب ثابت، سجل ائتماني نظيف، كفيل، ضمانات. لكن هذا النموذج بدأ يتغير. اليوم، يتجه العالم نحو نوع مختلف من التمويل، يقدم للأفراد والشركات بناءً على مدى تأثير مشاريعهم في المجتمع، لا فقط على قدرتهم على السداد.
هذا النوع من التمويل يتعامل مع المشاريع باعتبارها أدوات تغيير لا مجرد مصادر ربح. مشروع بيئي يحل مشكلة نفايات في حيٍّ سكني، تطبيق يساعد كبار السن في الحصول على خدماتهم بسهولة، أو مبادرة تعليمية تخدم الأحياء المحرومة… كل هذه لم تكن لتمول وفق المعايير البنكية القديمة، لكنها باتت اليوم تجد من يراهن عليها، لا لأنها مربحة ماليا فقط، بل لأنها تترك أثرًا.
على سبيل المثال، يمكننا النظر إلى مبادرة “أرامكو” في دعم المشاريع البيئية والتعليمية. قدمت دعما لعدد من المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تركز على التحول البيئي، مثل دعم مشاريع الطاقة المتجددة والمبادرات التي تهدف إلى تقليل الانبعاثات الكربونية. مثل هذه المشاريع، رغم كونها قد تكون ذات جدوى اجتماعية وأثر بيئي أكبر، كانت تجد صعوبة في الحصول على التمويل التقليدي، لكن اليوم أصبحت هناك برامج تمويل تركز على هذا النوع من الأثر.
أقول بثقة: هذا التحول ليس خيالا، بل بدأ بالفعل. في السعودية، ومع تسارع تنفيذ رؤية السعودية 2030، نرى اليوم جهات تمويل تنموية ومبادرات حكومية وشبه حكومية بدأت تقيم المشاريع من منظور أوسع. الرؤية وضعت الإنسان في قلب التنمية، وأعادت تعريف مفاهيم الاستثمار، ليس فقط من خلال الأرقام، بل من خلال الأثر. لم يعد الربح هو السؤال الوحيد، بل من سيستفيد؟ كم عدد المستفيدين؟ هل المشروع مستدام؟ هل يحل مشكلة حقيقية؟ هذا ما بدأت الجهات تسأله، وهذا ما يجب أن نعتاده، من الأمثلة على هذا التوجه، نلاحظ كيف بدأت بعض المبادرات الوطنية في دعم مشاريع صغيرة ومتوسطة لرواد أعمال شباب، فقط لأن مشاريعهم تخدم فئات محتاجة أو تقدم حلولًا بيئية مبتكرة، رغم أنهم لا يملكون ضمانات تقليدية. مبادرات مثل صندوق التنمية الوطني وبرنامج التحول الوطني أتاحت نماذج جديدة للتمويل، تعكس التغيير الحقيقي في النظرة إلى مفهوم العائد.
أنا أرى أن هذا النوع من التمويل لا يقصي التمويل التقليدي، بل يكمله. نحن بحاجة إلى أن نبني اقتصادًا يشجع الإنسان لا فقط رأس المال، ويمنح الفرصة لمن يحمل فكرة نافعة، لا فقط لمن يملك ضمانا قويا. التمويل القائم على الأثر يخلق عدالة اقتصادية جديدة، يكافأ فيها من يصنع الفرق، لا فقط من يملك أوراقا قوية، في عالم سريع التغير، أصبح الاستثمار الاجتماعي محط أنظار العالم، ويعد التمويل القائم على الأثر الحل الأمثل لبناء مستقبل اقتصادي مستدام. إذا كانت البنوك التقليدية قد حكمت العقود الماضية بقوة الضمانات والتاريخ الائتماني، فإننا اليوم في حاجة إلى معايير جديدة، معيار يعتمد على قدرة الأفراد والشركات على إحداث فرق حقيقي في مجتمعاتهم. هذا النوع من التمويل لا يقتصر على تقديم الأموال، بل يركز على بناء قيمة حقيقية يمكن قياسها في حياة الناس، وخلق تأثير إيجابي يعزز من الاستدامة الاجتماعية والبيئية، ورغم جاذبية هذا التحول، إلا أنني أطرح تساؤلات مشروعة: كيف نقيس الأثر؟ من يحدد قيمة الفائدة المجتمعية؟ وما مدى استعداد البنوك لتبني هذا النوع من المخاطرة غير التقليدية؟
الجواب على هذه التساؤلات يتجسد في واقعنا اليوم. فعندما تضع رؤية السعودية الإنسان أولًا، وتبني سياساتها على التمكين والاستثمار في الأثر، فإنها لا تفتح الباب فقط لهذه الأسئلة، بل تقدم الإجابة العملية: نعم، نحن مستعدون. نعم، نحن نؤمن بأن رأس المال الحقيقي قد يكون فكرة في عقل شاب لم يملك سوى طموحه. المستقبل هو البرهان على ذلك، وهو ما سيحدد شكل اقتصادنا القادم ونوع الإنجاز الذي سنقدمه للعالم.
ختام القول..
نحن أمام منعطف اقتصادي لا يقل أهمية عن دخول التقنية أو الذكاء الاصطناعي، لكنه أكثر إنسانية وعمقا. إنه تحول يعيد تعريف “القيمة” في الاقتصاد، بحيث لا تقتصر على الأرباح أو معدلات العائد، بل تمتد لتشمل الأثر، التغيير، والجدوى المجتمعية، إذا تبنينا هذا النموذج بوعي، فإننا لا نعيد فقط تشكيل معادلة التمويل، بل نعيد توجيه البوصلة نحو الإنسان، نحو الفكرة، ونحو الحل. سنفتح بابا واسعا لآلاف المشاريع المجتمعية التي ظلت حبيسة الإمكانات المحدودة، وسنمنح الفرصة لمن لم يكن يملك سوى إيمانه بفكرته ونفعها العام.
نهاية عصر القروض التقليدية لا تعني نهاية التمويل، بل تعني بداية تمويل من نوع مختلف: تمويل يرى في الفكرة نبضًا، وفي الأثر قياسًا، وفي التغيير مبررًا للاستثمار. نحن نعيش لحظة تتوافق تمامًا مع توجه المملكة نحو تمكين الإنسان، وتحقيق التنمية الشاملة، وتحويل الابتكار إلى قيمة اقتصادية. وهذا بالضبط ما تسعى إليه رؤية السعودية 2030: اقتصاد لا يدار فقط بالأرقام، بل يلهم بالمضمون.
المستقبل سينصف من يؤمن بالأثر قبل الدخل، ويمنح الثقة لمن يسعى لتغيير حياة الناس لا فقط تحسين وضعه المالي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال