الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نشأت الحوكمة في سياق الأعمال لحماية حقوق أصحاب المصلحة، وكآلية للحد من مشكلة تعارض المصالح. ولتحقيق هذين الهدفين، نجد أن أطر الحوكمة تركز على تعزيز الموضوعية والاستقلالية على أصعدة متعددة وبما يحقق رقابة فاعلة. وفي بيئة الأعمال المعاصرة، أضحت الاستقلالية عنصرا أساسيا لممارسات الحوكمة المختلفة، سواء كانت على مستوى الهيكل التنظيمي والمنظمة بشكل عام، أو على مستوى مجالس الإدارة وعضويتها، أو على مستوى تشكيل اللجان المنبثقة من مجلس الإدارة، أو حتى على مستوى فصل الوظائف المتعارضة. وتأتي عضوية لجنة المراجعة كأكثر اللجان المنبثقة من مجلس الإدارة تحفظا وبمعايير أكثر صرامة مقارنة بغيرها من اللجان، وذلك لحساسيتها ودورها الرقابي المهم.
ويبرز دور لجنة المراجعة كآلية رقابية لأعمال الشركة، والتحقق من سلامة ونزاهة التقارير والقوائم المالية وأنظمة الرقابة الداخلية فيها، وضمان الالتزام بالأنظمة والتعليمات. كما تُعد لجنة المراجعة أحد عناصر نموذج الخطوط الثلاثة الصادر عن المعهد الدولي للمراجعين (المدققين) الداخليين. علاوة على ذلك، أشار تقرير (FRC, 2022) إلى أن تفعيل دور لجنة المراجعة ساهم في خفض حالات التحفظ من قبل المدقق الخارجي بنسبة 24% خلال ثلاث سنوات. كما تُظهر الدراسات أن وجود لجنة مراجعة فعّالة يساعد في تحسين جودة الأرباح (Earnings Quality)، وخفض احتمالية التلاعب المالي، وتعزيز ثقة المستثمرين. وفقًا لدراسة (DeFond & Zhang, 2014)، فإن الشركات التي تمتلك لجان مراجعة ذات استقلال فعلي تحقق جودة أرباح أعلى بنسبة 17% من نظيراتها التي تفتقر لذلك. محليا، فإن رصد حالات تلاعب في الاعتراف بالإيرادات، يزيد بعد تغيير رئيس لجنة المراجعة وتعيين عضو مستقل ذو خلفية مهنية وكفاءة.
ولدور لجنة المراجعة المهم ولتعزيز مستوى حوكمتها، جاءت معايير تشكيلها حسب لائحة حوكمة الشركات الصادرة من هيئة السوق المالية مؤكدةً على استقلالية الرئيس والأعضاء. حيث يجب أن يكون من بين أعضاء اللجنة عضوا مستقلا على الأقل. كما يجب أن يكون رئيس لجنة المراجعة عضوا مستقلاً (فقرة استرشادية)، كما يجب أن يكون نصف عدد أعضاء لجنة المراجعة من الأعضاء المستقلين. كل هذه الشروط تأتي ترسيخا لمفهوم الاستقلالية وأهميته، مما يساعد على حوكمة أفضل للجنة وتفعيل دورها الرقابي. ولكن، هل يكفي أن يُوصف العضو بالمستقل حسب انطباق المعايير والشروط فقط؟ أم أن الاستقلالية تتطلب ما هو أعمق من ذلك؟
تُعرف لائحة حوكمة الشركات العضو المستقل بأنه عضو غير تنفيذي، يتمتع بالاستقلال التام في مركزه وقراراته، ولا تنطبق عليه أي من عوارض الاستقلال، مثل العلاقات المالية أو العائلية بالشركة، أو تقاضي مبالغ مالية علاوة على مكافأته تزيد عن مئتي ألف ريال أو عن خمسين في المئة من مكافأته في العام السابق. ولا شك أن هذه الشروط تضمن الاستقلال الظاهري، ولكن ماذا عن الاستقلال العقلي (Mental Independence)؟
الاستقلال الظاهري لا يضمن الحياد الفعلي. ففي قضية شركة وايركارد (Wirecard) الألمانية (2020)، كانت لجنة المراجعة تضم أعضاء مستقلين، لكن لم تكن لديهم الجرأة على مساءلة الإدارة، مما سمح بتضخيم الأرباح وغياب 1.9 مليار يورو. في شركة انرون (Enron) الأمريكية، ورغم وجود لجنة مراجعة، إلا أن تقارير لاحقة كشفت أن أعضاء اللجنة تجاهلوا إشارات واضحة على مخالفات مالية بسبب علاقاتهم الوثيقة بالإدارة التنفيذية.
لذلك، قد يُعين عضو مستقل يتمتع بكل الشروط الشكلية، لكنه بسمات شخصية ضعيفة أو سلبية. وإن كان من الصعب وضع شروط للسمات الشخصية، كان لزاما على المجلس ولجنة الترشيحات ورئيس لجنة المراجعة التمحيص في اختيار العضو المستقل ظاهريا وعقليا. الاستقلال العقلي هو قدرة الشخص على التفكير بحرية دون تأثير غير مبرر من الأخرين أو بضغط خارجي من أطراف ذات مصلحة، والقدرة على اتخاذ القرار بناءً على الأدلة والقناعة وليس لمسايرة أعضاء أكثر نفوذا، أو لرأي الأغلبية أو لضمان البقاء كعضو في اللجنة. إن الاستقلال العقلي يساعد على مقاومة الضغوط وتقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية. أشارت دراسة نشرتها هارفرد بزنس ريفيو (2021) إلى أن الاستقلال العقلي للعضو أهم من استقلاله القانوني في منع السلوكيات المحاسبية المتعسفة (Aggressive Accounting).
ويمكن للمجلس وللجنة الترشيحات ولرئيس لجنة المراجعة التأكد من استقلالية العضو العقلية من خلال ممارسات مختلفة تشمل على سبيل المثال لا الحصر: إجراء مقابلات تعيين تتضمن اختبارات شخصية وأخلاقية، تقييم أداء الأعضاء بشكل دوري يشمل مواقفهم في اتخاذ القرارات، وضع مؤشر أداء عن جودة العمل الرقابي للعضو وعدد الملاحظات المقدمة.
على الجانب الأخر فإن مسؤولية الاستقلال الفعلي تقع على عاتق العضو المستقل أيضا، من حيث ممارسة الرقابة الذاتية، وإبداء رأيه المستقل، وعدم التأثر بالضغوط المختلفة. وعلى العضو المستقل أن يتذكر أن هذه العضوية مسؤولية أمام الله والمساهمين والجهات الرقابية أكثر من كونها تشريفا أو مصدرا للدخل.
أخيرا، العضو المستقل ليس منصبا أو وصفا لحاله أو انطباق لشروط، بل آلية حوكمة تساعد في كبح انحرافات الأداء ومخالفة الأنظمة من خلال تقليل تضارب المصالح ورفع القدرة على التعبير عن الرأي المدعم بالأدلة. الاستقلال الحقيقي لا يُقاس بعدم العمل في الشركة أو عدم وجود قرابة عائلية أو علاقة شخصية فقط، بل يُقاس أيضا بمدى استعداد العضو لممارسة دوره والتعبير عن رأيه وفقا للمعايير المهنية والأخلاقية.
ختاما: الاستقلالية ليست مادة في لائحة فقط… بل ضمير حيّ ومسؤولية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال