الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم يعد بوسع الخطاب السياسي الأمريكي – مهما بالغ في وعوده – أن يتجاوز الواقع الهيكلي للأسواق، فالمؤشرات الميدانية تقول ما لا يقوله خطاب ترمب الذي وعد الناخب الأمريكي – ضمن العديد من الوعود – بالوصول إلى مستويات غير مسبوقة من إنتاج النفط الأميركي يوميا، معتمدا على سردية الاكتفاء الذاتي كأداة استعادة للهيمنة، إذ أن عدد الحفارات الأميركية النشطة – وهو المؤشر الأكثر دقة لنية السوق – في تراجع منذ توليه الرئاسة في يناير، وفي وقت يُفترض أن تتسارع فيه وتيرة الاستثمار لا أن تتقلص.
هذا التراجع هو انعكاس مباشر لمعادلة اقتصادية فقدت اتزانها، فالأسعار في مستويات لا تشجع على التوسع، كما صرّح رئيس شركة “ليبرتي إنرجي”، إحدى أكبر شركات النفط الصخري، والتراجع في الأسعار يعني أن التخفيضات الإنتاجية تصبح حتمية، وحتى وزير الطاقة الأميركي الحالي “كريس رايت” – الذي سبق أن ترأس هذه الشركة – لم يتمكن من تغيير هذه المعادلة، فالكفاءة وحدها لا تكفي عندما تكون بيئة السوق غير مواتية.
أتت تحذيرات شركات النفط الأميركية من تباطؤ نمو الإنتاج في حوض “بيرميان” – المسؤول عن ثلثي النمو في إنتاج النفط الصخري – كإشارة واضحة على حدود القدرة الذاتية، والمستويات السعرية الحالية في نطاق 60 دولارا لا تضمن تدفقات استثمارية كافية، بل قد تُفضي إلى تداعيات هيكلية طويلة الأمد تُعيد رسم مشهد الطاقة العالمي برمته، وتترك وعود ترمب أمام الناخب الأميركي بلا سند واقعي.
هنا، تبرز المملكة العربية السعودية لا كخيار، بل كشرط لازم، فالحراك الاقتصادي العالمي لم يعد يدار من “واشنطن” وحدها، والمملكة – بما تملكه من وزن اقتصادي واستقرار سيادي وقدرة على هندسة السوق – هي اليوم حجر الزاوية في أي مشروع لاستعادة التوازن بين العرض والطلب، وتحصين النظام المالي الدولي من موجات تضخمية مدمرة.
لكن المملكة العربية السعودية اليوم كقوة تنظيمية توازن بين اعتبارات السوق، ومصالحها الاستراتيجية، وموقعها القيادي في المنطقة، لا تتصرف برد الفعل، بل بمنطق المبادرة، فهي تنسق، وتستشرف، وتفرض من خلال شرعيتها السيادية رؤية طويلة المدى للاستقرار الاقتصادي والأمني، وعلى القوى العالمية – بما فيها الولايات المتحدة – أن تدرك أن من يريد شراكة حقيقية مع الرياض، عليه أن يحترم أولوياتها ومجالها السيادي ومصالحها العليا.
زيارة ترمب للمملكة يوم الثلاثاء 13 مايو 2025، تأتي في ظرف دقيق، إذ لم يعد ممكنا الفصل بين أمن الطاقة، واستقرار الأسواق، ومعادلات السلام الإقليمي، والمملكة تقود تحولات واسعة، وتعيد بناء بيئة الشرق الأوسط على أسس تنموية لا تصادمية، ومن مصلحة الجميع – “واشنطن” تحديدا – أن تنخرط في هذه المقاربة الواقعية، لا أن تراهن على استدعاء معادلات انتهى زمنها.
لذلك، فإن دعم المملكة للجهود الدولية ليس تلقائيا ولا مجانيا، بل مشروط باعتراف متبادل بالمصالح واحترامها، وإذا أرادت الإدارة الأميركية معالجة إنتاجها النفطي، وكبح التضخم، وضمان استمرارية نموها الصناعي، فعليها أن تدرك جيدا وواقعا بأن المملكة يمكن أن يكون الشريك السيادي الذي لا غنى عنه، وهي شراكة مكلفة لا شك في ذلك، لكنها تضمن استقرارا طويل الأجل، لا توفره البدائل القصيرة المدى.
منحدر الحفارات الأميركية ليس فقط مؤشرا على تراجع استثماري، بل تعبير عن خلل في الفهم الجيواقتصادي، ومركزية الرياض في هذه المسألة تفرض نفسها، فهي اليوم تمسك بخيوط التهدئة، وتوازن الأسواق، وأيضا ترسم ملامح مستقبل المنطقة، ومن أراد المضي معها، فعليه أن يتحمل كلفة الشراكة العادلة، لا أن يطالب بامتيازات لم يعد سياق اليوم يسمح بها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال