الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في تحول لافت على الساحة الإقليمية، جاء إعلان رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، بدعم مباشر من السعودية، كإشارة قوية إلى دخول الشرق الأوسط مرحلة جديدة من التشكل الاقتصادي والجيوسياسي. لم يكن القرار حدثاً معزولاً، بل ثمرة لجهود دبلوماسية واقتصادية متراكمة تعكس فهماً سعودياً متقدماً لدور المملكة في صياغة توازنات جديدة، ليس على مستوى الخليج فحسب، بل على مستوى الإقليم برمّته.
هذه الخطوة، في سياقها الأوسع، تُعيد توجيه البوصلة نحو فكرة التكامل الإنتاجي الإقليمي، لا سيما بين ثلاث دول: السعودية، تركيا، وسوريا. دول تحتل موقعاً محورياً بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وتملك بشكل متكامل موارد طبيعية، وقوى بشرية، وقدرات تصنيعية ومالية، تجعل منها مرشحة بامتياز لتشكيل محور اقتصادي بديل عن مراكز التأثير التقليدية.
اليوم، يشهد الشرق الأوسط اختلالات في سلاسل الإمداد، وضعفاً في الإنتاج الغذائي، وتحديات في أمن الطاقة. تستورد دول الخليج، على سبيل المثال، نحو 85% من غذائها، بينما تعتمد تركيا على روسيا وإيران لتأمين نحو 30% من احتياجاتها من الطاقة. أما سوريا، فقد فقدت خلال الحرب أكثر من نصف بنيتها الزراعية والصناعية، لكنها رغم ذلك تحتفظ ببنية تحتية قابلة لإعادة التشغيل، وأراضٍ خصبة غنية بالمياه الجوفية والمناخ المعتدل.
في هذا السياق، يبدو رفع العقوبات عن سوريا كنافذة استراتيجية تفتح أبواب الاستثمار والإعمار أمام الدول الخليجية وتركيا. ولعل من أبرز مؤشرات هذا التحول، إعلان الحكومة السورية عن محادثات متقدمة مع شركات سعودية في مجال الزراعة والطاقة البديلة، واهتمام تركي بإعادة تفعيل الروابط التجارية والصناعية عبر شمال سوريا.
تُعيد المملكة العربية السعودية رسم خريطتها الاقتصادية من خلال رؤية 2030، حيث تستثمر مئات المليارات في مشاريع الطاقة المتجددة والصناعات التحويلية والتقنيات المستقبلية. مشروع “نيوم” العملاق وحده يستهدف ضخ أكثر من 500 مليار دولار، ليكون مركزاً عالمياً في الابتكار والصناعة النظيفة. إلى جانب ذلك، تستعد السعودية لتكون لاعباً محورياً في أمن الغذاء الإقليمي، من خلال استثمارات زراعية داخل المملكة وخارجها، وتحديث تقنيات تحلية المياه واستصلاح الأراضي الصحراوية.
تُعد تركيا من بين أكبر عشر دول منتجة للزراعة عالمياً، وأحد أبرز المصنعين في الشرق الأوسط في مجالات النسيج، والآلات، والمنتجات الغذائية. ميناء مرسين، وخطوط السكك الحديدية السريعة، والبنية التحتية اللوجستية، تجعل منها نقطة انطلاق مثالية لربط الإنتاج السوري والخليجي بالأسواق الأوروبية. إضافة إلى ذلك، فإن المصانع التركية تمتلك قدرة تشغيلية عالية يمكن توظيفها في إعادة إعمار سوريا وتطوير صناعاتها المحلية، بتكلفة أقل من نظيراتها الغربية، وكفاءة لا يُستهان بها.
رغم الدمار الكبير الذي لحق بسوريا خلال السنوات الماضية، إلا أن البلاد تحتفظ بإمكانات زراعية هائلة. تمتد الأراضي القابلة للزراعة على أكثر من 5 ملايين هكتار، وتغطي مناطق خصبة من سهل الغاب إلى الجزيرة السورية. سوريا كانت قبل الحرب تُنتج أكثر من 4 ملايين طن من القمح سنوياً، وتُصدّر القطن والفواكه إلى عشرات الدول. اليوم، ومع رفع العقوبات، تعود الفرصة لإحياء هذه القطاعات الحيوية، خاصة إذا ما دعمتها استثمارات سعودية وخبرة تركية، من خلال مشروعات شراكة ثلاثية في الري الحديث، والمكننة الزراعية، وسلاسل التبريد والنقل.
التصور الواقعي للمستقبل يكمن في خلق تكامل صناعي وزراعي ثلاثي. فالسعودية توفر رأس المال والبنية التحتية للطاقة، وسوريا توفر الأرض واليد العاملة، وتركيا توفر التقنية والخبرة الصناعية. ويمكن لهذا التكامل أن يُنتج نموذجاً تنموياً مستقلاً، موجهاً ليس فقط نحو الاكتفاء الذاتي، بل نحو التصدير إلى أوروبا وأفريقيا، عبر ممرات تجارية جديدة تعتمد على الموانئ السورية والتركية، وتستفيد من تمويل الخليج.
لا يخلو المشهد من تحديات سياسية، فالعلاقات السورية-التركية ما تزال متوترة، والوضع الأمني في بعض المناطق السورية هش، فضلاً عن الحذر الدولي من الانفتاح الكامل على دمشق. لكن التجارب العالمية أثبتت أن المصالح الاقتصادية قادرة على تجاوز الخلافات الأيديولوجية، متى ما وُجدت الإرادة المشتركة، وهو ما يبدو أن الدول الثلاث بدأت تتحرك نحوه بخطوات محسوبة.
المشهد الإقليمي يشهد إعادة تشكيل كبرى. ومع خروج سوريا التدريجي من عزلتها، واندفاع السعودية في مشاريع التنمية والصناعة، وصعود تركيا كمحور صناعي وتجاري يخدم أسواق أوروبا وآسيا، يتبلور محور اقتصادي جديد يمتلك مقومات التحول من التبعية إلى التأثير. الزراعة، الصناعة، الطاقة، والربط اللوجستي هي مفاتيح هذا التحول. وإذا ما أحسن استثمار اللحظة، فإن السعودية وتركيا وسوريا قد لا تكتفي بتأمين احتياجاتها، بل قد تصبح — ولأول مرة منذ قرن — لاعباً صناعياً وزراعياً مؤثراً على مستوى وسط العالم.
هذا هو الشرق الأوسط الذي يجب أن يُصنع، لا يُنتظر.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال