الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في لحظة تتقاطع فيها التحولات الاقتصادية العالمية مع اضطرابات جيوسياسية غير مسبوقة، وبينما تتجه معظم الدول إلى تبنّي سياسات مالية تقشفية تعكس حالة من الترقب والحذر، اختارت المملكة العربية السعودية مسارًا مختلفًا؛ مسارًا لا يقوم على ردود الأفعال، بل على المبادرة الاستراتيجية المبنية على رؤية طويلة الأمد. وبينما يراقب العالم مؤشرات الأسواق بتوجّس، جاءت بيانات وزارة المالية للربع الأول من عام 2025 لتؤكد أن المملكة ماضية في تنفيذ مشروعها الاقتصادي والمالي بثقة، متجاوزة منطق إدارة الأزمات إلى منطق صناعة التحولات.
فبحسب البيانات الرسمية، بلغ إجمالي الإيرادات خلال الربع الأول 263.616 مليار ريال، منها 149.8 مليار ريال من الإيرادات النفطية، التي تراجعت بنسبة 18% مقارنةً بالفترة ذاتها من العام الماضي نتيجة تقلبات أسعار النفط وتباطؤ الطلب العالمي. في المقابل، سجلت الإيرادات غير النفطية نموًا طفيفًا بنسبة 2% لتبلغ 113.8 مليار ريال، مما يعكس درجة من الصمود والمرونة في أداء القطاعات غير النفطية، رغم الحاجة الماسّة لتسريع وتيرة التنويع الاقتصادي.
أما على جانب الإنفاق، فقد ارتفعت المصروفات إلى 322.3 مليار ريال، بزيادة قدرها 5% عن الربع الأول من عام 2024، ليسجَّل بذلك عجز مالي قدره 58.701 مليار ريال. إلا أن هذا العجز لا يُفهم كمؤشر خلل مالي، بل يُقرأ ضمن سياق التحول الاستراتيجي الذي تقوده المملكة، حيث جرى تمويل العجز بالكامل من خلال أدوات الدين دون المساس بالاحتياطي العام الذي يتجاوز 390 مليار ريال، بحسب بيانات مؤسسة النقد العربي السعودي. وهي خطوة تعكس انضباطًا ماليًا دقيقًا، وسياسة تمويلية مرنة لا تمسّ الاستقرار طويل الأجل.
وتُظهر بنية الإنفاق العام أولويات الدولة التنموية بوضوح. فقد ارتفع الإنفاق على قطاع الصحة والتنمية الاجتماعية بنسبة 19% ليبلغ 72.2 مليار ريال، ما يعكس التوسّع في شبكات الرعاية الاجتماعية وتعزيز جودة الحياة. كما ارتفع الإنفاق على التعليم بنسبة 5% ليصل إلى 53.9 مليار ريال، في تأكيد على الاستثمار في رأس المال البشري، وتحويل التعليم إلى أداة استراتيجية لبناء الاقتصاد الصناعي والمعرفي الجديد.
هذا التوجه يجسد ما يُعرف في الاقتصاد السياسي بـ”التحول المدفوع بالسياسة المالية”، حيث تقوم الدولة بدور المستثمر الأول في مرحلة تأسيس نموذج اقتصادي بديل. وقد طبّقت هذا النهج دول مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية والصين في مراحل مفصلية من تحوّلاتها التنموية، غير أن المملكة تطبقه من موقع استقرار مالي ونقدي، وضمن إطار رؤية وطنية متكاملة هي رؤية 2030.
وقد بدأت ملامح هذا التحول بالظهور على أرض الواقع، حيث سجّلت سوق العمل السعودية أعلى مستويات التوظيف منذ أكثر من عقد، وفقًا للهيئة العامة للإحصاء. إلا أن التحدي القادم يتمثل في ضمان جودة هذه الوظائف واستدامتها، ومدى ارتباطها بالقطاعات ذات القيمة المضافة مثل الطاقة النظيفة، والصناعات التقنية، والخدمات اللوجستية المتقدمة.
وتدرك الحكومة أن حجم الإنفاق لا يعني شيئًا ما لم يُترجم إلى أثر حقيقي. فوفقًا لمبدأ مضاعف الإنفاق الحكومي، يمكن لكل ريال يُنفق في التعليم أو الصحة أن يحقق عائدًا اقتصاديًا يصل إلى 2.2 ريال على المدى المتوسط، ما يجعل من العجز وسيلة استثمارية ذات عائد تنموي، لا عبئًا ماليًا.
ولضمان استدامة هذا النهج، تبرز الحاجة إلى أدوات تقييم أكثر دقة لقياس العائد التنموي الفعلي، مثل مؤشر “العائد السيادي لكل ريال يُنفق”، إلى جانب توسيع أدوات التمويل عبر صكوك خضراء واجتماعية للمشاريع النوعية، وتسريع رقمنة النظام الضريبي، وتوسيع القاعدة الضريبية دون رفع النسب، من خلال دمج الاقتصاد غير الرسمي وتحفيز الامتثال الطوعي.
إن المملكة اليوم لا تُدير موازنة عام مالي فحسب، بل تُعيد هندسة علاقتها بالمال العام عبر نموذج استباقي جديد. لقد تخلّت عن النموذج الريعي التقليدي، وبدأت في بناء نموذج إنتاجي يعتمد على الاستثمار طويل الأجل في الإنسان والقطاعات الاستراتيجية والسيادة الصناعية. ومن هنا، فإن العجز في الربع الأول من 2025 لا يُعد خللًا، بل تمويلًا واعيًا لمستقبل أكثر مرونة ونموًا.
فالموازنة العامة لم تعد وثيقة محاسبية جامدة، بل أصبحت خريطة طريق للعبور نحو اقتصاد ما بعد النفط، تُدار بأدوات مالية متطورة، وذهنية سيادية تقود التغيير ولا تكتفي برد الفعل. فبين الرؤية والواقع والمستقبل، تكتب السعودية قصة تحولها بأرقام مدروسة، وسياسات راسخة، وإرادة لا تعرف التردد.
اليوم، لم تعد مؤشرات العجز أو الفائض وحدها هي مقياس النجاح، بل أصبح المعيار الحقيقي هو: كم نُحدث من التحولات، وكم نخلق من الفرص، وكم نُرسّخ من الاستقلال الاقتصادي والسيادة التنموية.
بهذا النهج، تؤكد المملكة أن سيادتها المالية ليست فقط في توازن الحسابات، بل في قدرتها على توجيه الموارد لبناء وطنٍ أقوى، واقتصادٍ أعمق، ومستقبلٍ لا يُكتب له أن يُستورد… بل يُصنع على أرضها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال