الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في ظل الثورة الصناعية الرابعة يشهد العالم اليوم موجة واسعة من التحول الرقمي، الذي فرض حضور الذكاء الصناعي في مختلف جوانب الحياة والمهن، وبينما بدأت قطاعات مثل الطب، التعليم، والإعلام في دمج هذه التقنيات ضمن بنيتها الأساسية، أصبحت المحاماة هي الأخرى أمام واقع جديد يفرض أدوات ذكية وأساليب عمل مبتكرة… فلم تعد مهنة المحاماة محصورة في المرافعة والصياغات القانونية التقليدية، بل بدأت تدخل مرحلة جديدة، تُعيد تعريف شكل العمل القانوني، وتطرح أسئلة عميقة حول العلاقة بين التقنية والاحتراف.
بطبيعة الحال الذكاء الصناعي لا يأتي ليحل محل العقلية القانونية، بل ليقدم لهذا العقل أدوات تعزز من كفاءته ودقته وسرعة إنجازه؛ فاليوم يمكن للمحامي أن يستخدم الذكاء الصناعي في إعداد مسودات العقود، تحليل المخاطر القانونية، تبسيط المفاهيم المعقدة للعملاء، أو حتى في إجراء أبحاث قانونية أولية توفر عليه ساعات من البحث اليدوي…هذه المهام التي كانت تستهلك وقتًا وجهدًا كبيرين، أصبحت الآن تُنجز خلال بضع دقائق، مما يمنح المحامي مساحة أكبر للتركيز على الجوانب الاستراتيجية والإنسانية للقضايا، مثل التحليل ودراسة المشكلات القانونية، والمرافعة والمدافعة، وبناء الحجج القانونية المحكمة، وغيرها من الأعمال التي يقوم بها المحامي.
ومع كل هذه المميزات التي تجعلنا نتجه نحو الذكاء الصناعي، لا تزال هناك أصوات في الوسط القانوني تنظر إلى هذا التطور بتوجس وخيفة… فبعض الزملاء يرون أن استخدام الذكاء الصناعي قد يؤدي إلى نتائج غير دقيقة أو حتى خاطئة، أو أنه يقلل من قيمة الجهد المهني، أو يفتح الباب لغير المتخصصين لدخول مجال المحاماة من دون تأهيل كاف…
هذه المخاوف مفهومة، لكنها في كثير من الأحيان تنبع من عدم معرفة كافية بكيفية عمل الذكاء الصناعي، أو من تصور مبالغ فيه عن قدراتها؛ والواقع أن الذكاء الصناعي، مهما بلغ من تطور، لا يمكنه أن يُقدّر ظروف كل قضية، ولا أن يفهم السياق الاجتماعي أو النفسي للموكل، ولا أن يتعامل مع القاضي بلغة إقناعية مدروسة كما يفعل المحامي صاحب الخبرة.
فالمسألة لا تتعلق بالاستغناء عن العنصر البشري، بل بكيفية توظيف التقنية لدعمه! فالذكاء الصناعي يقدم المساعدة، لكنه لا يتحمل المسؤولية، وهو ينتج مقترحات، لا قرارات… وحتى عندما يستخدم في مجال المحاماة، يظل المحامي هو من يراجع، هو من يعدل، هو من يتخذ القرار النهائي؛ وهنا يظهر الفارق بين من يرى في هذه الأدوات تهديدا، ومن يراها فرصة لتطوير عمله… من يتبنى التقنية بذكاء، سيحافظ على جودة عمله ويزيد من إنتاجيته، بينما من يرفضها بالكامل قد يجد نفسه لاحقا يحاول اللحاق بركب تطوّر سبق زمانه، ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن نتذكر كيف اعترض الكثير من المختصين على دخول الآلة الكاتبة إلى أروقة المحاكم، ثم اعترضوا على دخول أجهزة الحاسب الآلي، ثم اعترضوا على التقاضي عن بعد والجلسات الإلكترونية، وهاهم الآن يعترضون على دخول الذكاء الصناعي…
ومن المهم أيضًا أن نعي أن هذه المرحلة الجديدة لا تعني أن نستخدم الذكاء الصناعي بعشوائية وفوضوية، بل إنها تتطلب تنظيمات واضحة تواكب هذا التغيير، ويجب أن تكون هناك أنظمة تُنظّم كيفية استخدام الذكاء الصناعي في الأعمال القانونية، وتحفظ خصوصية المعلومات، وتُحدد المسؤولية عند الخطأ، وتمنع منتحلي الصفة من ممارسة المحاماة تحت غطاء “أدوات ذكية”. هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بمشاركة المحامين أنفسهم في صياغة تلك الأنظمة، بحيث يحمون مهنتهم ويقودون مسار التطوير بدل أن يتركوه للظروف.
في الختام أقول : مهنة المحاماة، بما تحمله من مسؤولية وأمانة، لا يمكن أن تختزل في خوارزمية أو تطبيق ذكي، لكنها أيضا ليست في معزل عن التغيرات من حولها، الذكاء الصناعي لن يلغي دور المحامي، لكنه سيغير أدواته وطريقته في العمل… ومن يدرك هذا التغير مبكرا ويتعامل معه بوعي ومهنية، سيكون هو المحامي القادر على الاستمرار، والتأثير، والتميز في مرحلة قانونية جديدة بدأت تتشكل بالفعل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال