الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يحدث مرة في العام لكنه يُلخّص كل ما يمكن أن يحدث في العالم، ملايين القلوب تتجه نحو بقعة واحدة، وملايين الخطوات تبحث عن الطمأنينة وسط الزحام، هناك حيث يتقاطع الإيمان مع التنظيم، ويُختبر الضمير العام للدولة أمام عيون لا تعرف لغةً سوى الدعاء، ولا تنتظر من الأرض شيئًا سوى أن تكون رحيمة.
الحج ليس مناسبة دينية فقط، إنه مشهد إنساني كثيف ومعقّد، تلتقي فيه الجغرافيا بالتاريخ، ويجتمع فيه الناس على اختلاف ثقافاتهم وأعمارهم وخلفياتهم في زمن واحد ومكان واحد وغاية واحدة، هذا التجمّع الهائل لا يخضع لقانون المنطق، بقدر ما يستدعي قانون الدولة، التي لا يُطلب منها أن تحتفي، وإنما أن تُجيد.
في موسم حج هذا العام واجهت المملكة امتحانها السنوي الأصعب، ونجحت فيه كما اعتادت، نجاح الحج لا يُقاس بعدد الكيلومترات التي قُطعت، ولا بعدد الوجبات التي قُدّمت، ولا بعدد الأسرّة التي وُفّرت في المستشفيات، رغم أهمية ذلك كله، النجاح يُقاس بقدرة الدولة على الجمع بين التنظيم والرحمة، وبين السيادة والضيافة، وبين الحزم والاحتواء.
ليس من السهل التعامل مع ضيوف قدموا من كل فجّ عميق يحملون معهم لهجات وعادات وظروفًا وأحيانًا متاعب لا يمكن التنبؤ بها، في ظل هذه الكثافة البشرية تغدو التفاصيل هي التي تصنع الفرق، حركة الحافلة في الدقيقة، توجيه الحاج في اللحظة، استجابة رجل الأمن في ثانية واحدة، وابتسامة المتطوع التي قد تمنح الطمأنينة في مشهد مزدحم.
ما ميّز حج هذا العام هو أن الدولة بدت حاضرة قبل أن يُطلب منها أن تحضر، الطرق مهيّأة، الإرشادات واضحة، اللغة مفهومة، المعلومة متاحة، ووسائل التقنية تعمل بلا ضجيج، هذه ليست خدمات طارئة، إنما بنية دولة تُدار بعقل، وتُنفّذ بإخلاص، لا حديث عن الفوضى، ولا ارتباك في المشهد، ولا مساحة للصدفة.
الدولة التي تدير هذا الكم الهائل من الحشود بهذه السلاسة لا تختبر قدراتها فقط، هي تُملي على العالم معايير جديدة في إدارة الإنسان، لم يكن ذلك وليد مناسبة، إنما نتيجة تراكم من الجهد والخبرة والنية.
حتى بات من الطبيعي أن يغادر الحجاج إلى بلدانهم وهم ممتنون، لكن اللافت أنهم غادروا وهم مطمئنون، الطمأنينة لا يصنعها الأمن فقط، تصنعها الثقة في أن هناك من يحرص عليهم، ويتوقع احتياجاتهم، ويعاملهم كضيوف حقيقيين، لا كأرقام في سجل.
الذين حاولوا تقليل شأن التنظيم أو الاكتفاء بوصفه واجبًا عاديًا، يغيب عنهم أن الأمور العادية لا تتحقق بهذا الإتقان في مكان آخر، نحن أمام تجربة تتجاوز فكرة النجاح في المناسبة، نحو ترسيخ نموذج للدولة التي تنجح في إدارة الفوضى دون أن تفقد توازنها أو صوتها أو أخلاقها.
هكذا كان الحج هذا العام، درسًا في الإدارة، شهادة في الاحتراف، ومشهدًا يليق بوطن يعرف جيدًا أن خدمة الإنسان تبدأ قبل أن يصل، وتستمر حتى بعد أن يغادر.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال