الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في خضم الحرب العالمية الثانية، برزت الولايات المتحدة الأمريكية كلاعب اقتصادي وصناعي محوري، مدفوعةً بحاجة ملحّة لتأمين متطلبات الحرب من معدات وأسلحة ومؤن. هذا الزخم قاد إلى تطور صناعي هائل، غذّته برامج حكومية ضخمة مثل “البرنامج الصناعي الحربي”، الذي لعب دورًا كبيرًا في تشكيل ملامح الاقتصاد الأمريكي الحديث، وربط الإنتاج بالابتكار التكنولوجي وتمكين القطاع الخاص من قيادة النمو.
عقب الحرب، تحولت البنية التحتية الصناعية من أغراض عسكرية إلى إنتاج مدني، مدعومة بطفرة في الاستهلاك الداخلي، وبرامج تمويل ضخمة كـ”مشروع مارشال” الذي أعاد إعمار أوروبا وأسهم في فتح الأسواق العالمية أمام الشركات الأمريكية. كان ذلك إيذانًا بدخول الولايات المتحدة عصرها الذهبي، حيث أسست شركاتها الكبرى تفوقها التقني والصناعي، وتحوّلت صناعتها إلى مرجع عالمي في الكفاءة والجودة.
وقد مثّل قرار فك ارتباط الدولار بالذهب في السبعينات لحظة تاريخية فاصلة، أعاد من خلالها الاقتصاد الأمريكي تعريف موازين القوة، وأطلق “العصر الأمريكي” بتفوق نقدي واقتصادي عالمي غير مسبوق. ورغم تعاقب قوى اقتصادية منافسة – من اليابان إلى الاتحاد الأوروبي – ظلّت أمريكا في موقع الريادة.
واليوم، ما نعيشه من مناوشات اقتصادية وتجارية بين الولايات المتحدة والصين، ليس إلا حلقة جديدة من سلسلة تنافسية طويلة. لكن هذه الجولة مختلفة، لا لقرب الصين من القوة الأمريكية فحسب، بل لأن الولايات المتحدة نفسها كانت العامل الرئيسي في صعود الصين الصناعي وإيقاظ “التنين النائم”.
ورغم أن الاستثمارات الأمريكية – المباشرة وغير المباشرة – لا تمثل نسبة كبيرة بشكل مباشر من الناتج المحلي الصيني، فإن تأثيرها التراكمي على مدى عقود، من خلال نقل التقنية، التجارب، ونماذج التشغيل، يُقدَّر بأنه لعب دورًا محفزًا قد يعادل أثرًا اقتصاديًا يقارب 10%، وهو ما يجعل واشنطن شريكًا غير مباشر في صعود القوة الصناعية التي تنافسها اليوم.
ويُعد تفوق الصين في الناتج الصناعي ناقوس خطر أزعج واشنطن، وشرارة الحرب التجارية التي اشتعلت لاحقًا. فنزوح رؤوس الأموال الأمريكية نحو الصين – بدافع الربحية أولًا، ثم لجودة التشغيل وتوفر الأيدي العاملة وسلاسل الإمداد – كان مؤشرًا واضحًا على تراجع القوة الصناعية الأمريكية، وولادة منافس صناعي شرس.
ورغم أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي لا يزال يفوق نظيره الصيني بنحو 50%، فإن الكفة تميل لصالح الصين حين يتعلق الأمر بالناتج الصناعي، إذ يشكل القطاع الصناعي أكثر من ربع اقتصادها، مقارنة بأقل من 10% في الولايات المتحدة.
هذا التباين دفع واشنطن إلى إطلاق مبادرات لإعادة توطين الصناعات، ورفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي، إدراكًا منها بأن الصناعة تمثل الركيزة الأساسية للاقتصاد الحقيقي، والمجال الوحيد القادر على تفعيل عناصر الإنتاج الثلاثة بصورة متكاملة: رأس المال، القوى العاملة، وإجمالي إنتاجية العوامل.
وتعكس التجربتان الأمريكية والصينية خلال العقدين الماضيين أهمية القطاع الصناعي كأداة لبناء اقتصاد متين، وتعزيز الاستقلالية، وترسيخ النفوذ في الساحة الجيوسياسية.
ولم يعد الصراع بين البلدين مجرد منافسة تجارية، بل تجاوز ذلك ليصبح صراع سيادة وتفوق استراتيجي، بل معركة وجودية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ورغم تباين الآراء حول بعض السياسات الأمريكية الأخيرة، إلا أن ما لا خلاف عليه هو أن الصناعة ستظل أساس كل اقتصاد منتج ومستدام.
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل ستنجح واشنطن في كبح التفوق الصناعي الصيني وإعادة ترتيب أولوياتها الصناعية؟ أم أن هذه اللحظة تمثل بداية مرحلة جديدة تُعاد فيها صياغة موازين القوى؟
ستُبدِي لنا الأيامُ ما كنّا نجهله…
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال