الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
رغم أن مبدأ حسن النية يُعد أحد المبادئ المحورية في التشريع السعودي، حيث تم إدراجه في العديد من النصوص النظامية، ما جعله التزاماً قانونياً فعلياً يرتب آثاراً عند الإخلال به، إلا أن التعامل مع هذا المبدأ على الصعيد المقارن، وتحديداً في التشريع الإنجليزي، يكشف عن تباين جوهري في التوجهات القانونية والنظرية.
فالقانون الإنجليزي، تاريخياً، لم يتبنَّ مبدأ حسن النية كمبدأ عام يحكم العقود التجارية، ورفض اعتماده كمفهوم مستقل يُستند إليه في فض المنازعات. وقد تجلى ذلك بوضوح في قضيتي Smith v Hughes و Walford v Miles، حيث رفضت المحاكم الإنجليزية الاعتراف بواجب عام للتفاوض أو التعاقد بحسن نية في التعاملات التجارية. وبدلاً من الاعتماد على مبادئ عامة أو شاملة، فضَّل القضاء الإنجليزي أسلوب التطوير القضائي التدريجي عن طريق القياس على السوابق القضائية، مع الحذر من أي مبدأ قد يُستخدم لتقويض اليقين التعاقدي، كما حذَّر Lord Justice Moore-Bick صراحة في تعليقاته على قضية MSC.
بالمقابل، يُلاحظ أن المشرع السعودي لم يواجه الإشكالية ذاتها، حيث اختار إدراج مبدأ حسن النية في العديد من القوانين التجارية -وغيرها- ضمن نصوص واضحة وصريحة، كما هو الحال في نظام الأوراق التجارية، والنظام البحري التجاري، ونظام الشركات، ونظام الإفلاس وغيرها، ما أتاح للمحاكم إمكانية تطبيقه ضمن سياق منظم ومحدد. إلا أن هذا التنظيم، رغم صراحته، يظل بحاجة إلى تطوير في تقييد التقدير القضائي وضبط معايير التطبيق، منعًا للاجتهاد المفرط أو التضارب في التفسير، خاصة بين المعيار الذاتي الذي قد يصعب إثباته عمليًا، والموضوعي الذي يتسم أحياناً بالمرونة الواسعة، والمعيار القانوني الذي قد يفتقر إلى مراعاة الحالات الخاصة.
ومع أن القانون الإنجليزي يُتهم تقليديًا بالتحفظ تجاه هذا المبدأ، إلا أن التطورات القضائية الأخيرة، كما في قضية Yam Seng Pte Ltd v ITC، أظهرت انفتاحاً محدوداً نحو الاعتراف بمبدأ حسن النية في العقود التجارية، خاصة تلك التي تنطوي على علاقات طويلة الأمد أو ما يعرف بـ Relational Contracts .
ورغم أن هذا الانفتاح لم يرقَ إلى مستوى الإقرار بالمبدأ كقاعدة عامة، إلا أنه يعكس إدراكاً قضائياً تدريجياً لأهمية وجود حد أدنى من الالتزام بالولاء والنزاهة في تنفيذ العقود، ولو من خلال الشروط الصريحة أو الضمنية.
لكن التردد المستمر لدى القضاء الإنجليزي يعكس أولوية واضحة لمبدأ “اليقين التعاقدي” على حساب المرونة التفسيرية التي قد يتيحها مبدأ حسن النية. فبينما يسعى المشرع السعودي إلى تعزيز حماية الأطراف من خلال إلزامهم بمتطلبات حسن النية (كالشفافية في التصرف)، يحذر القضاء الإنجليزي من أن استخدام هذا المبدأ كأداة تفسيرية عامة قد يؤدي استخدامها إلى تقويض اتفاقات الأطراف وفتح باب واسع للمنازعات.
من هنا، يمكن القول بأن الفرق الجوهري لا يكمن فقط في الاعتراف بالمبدأ من عدمه، بل في فلسفة القانون ذاته: فالتشريع السعودي يميل إلى إرساء قواعد معيارية واضحة تنظم السلوك وتحقق التوازن العقدي، بينما يعتمد التشريع الإنجليزي على الثقة في صياغة الأطراف ودعم حرية التعاقد، ويُفضِّل تدخل القضاء في أضيق الحدود الممكنة، إلا إذا كانت العلاقة التعاقدية من طبيعة تتطلب نوعًا من الولاء المتبادل “كالتأمين”.
هذا التباين يفتح باباً للتساؤل النقدي: هل الأفضل تقنين المبدأ بما يحدُّ من التعسف ويحقق الاستقرار، كما في النهج السعودي؟ أم أن الاكتفاء بالتطور القضائي البطيء، ولكن الحذر، كما في النموذج الإنجليزي، يحقق حماية أطول مدى لعقود الأطراف دون المساس بحرية التعاقد؟
وما بين هذين النموذجين، يظل التحدي الأهم حول كيفية تحقيق التوازن بين الإنصاف واليقين، بين حماية الطرف الأضعف في العلاقة التعاقدية وضمان احترام حرية التعاقد، وهي معادلة لا يزال القانون في كلتا المنظومتين يسعى إلى ضبطها دون الإخلال بجوهر العدالة العقدية. من هنا، يُنصح المستثمرون في المملكة بفهم الطبيعة الملزمة لمبدأ حسن النية عند صياغة العقود، على خلاف ما قد يتوقعه المستثمر الأجنبي القادم من أنظمة أكثر تحفظاً كالقانون الإنجليزي. ومع استمرار التطورات القانونية في كلا التشريعين، سيظل مبدأ حسن النية في العقود التجارية محط نقاش أكاديمي وقانوني، حيث يبحث المشرعون والقضاة في كيفية تحقيق التوازن بين حماية الحقوق وضمان استقرار المعاملات التجارية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال