الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نحو مستقبل محكم الإدارة
في بيئة تتسارع فيها وتيرة التغيير وتتزايد فيها تعقيدات المشهد الاقتصادي والاجتماعي، أصبحت الاستراتيجيات أداة محورية لتوجيه جهود الدول نحو تحقيق أهدافها الكبرى. ومع ذلك وعلى الرغم من الجهود المبذولة في إعداد استراتيجيات طموحة ومتكاملة، تظهر في كثير من التجارب الإدارية محلياً ودولياً، عقبة متكررة تعرقل تحقيق الأثر المطلوب أو ما يمكن تسميتها “فجوة التنفيذ”.
فجوة التنفيذ هي الفجوة بين ما يخطط له نظريًا في الاستراتيجيات والمبادرات، وبين ما يتحقق فعلياً على أرض الواقع. وهي غالباً لا ترتبط بضعف الرؤية أو نقص الموارد، بل تنشأ عن سلسلة من التحديات المؤسسية والإجرائية والثقافية التي تعيق تفعيل الخطط وتحقيق النتائج الملموسة. وتعد هذه الفجوة من أخطر التحديات لأنها قد تُخفي الإخفاق وراء وثائق مكتوبة ووعود معلنة، دون وجود نتائج فعلية يشعر بها المواطن أو تُقاس بأثر ملموس.
من أبرز أسباب هذه الفجوة ضعف الحوكمة أو غيابها في مرحلة التنفيذ. فعندما لا تكون هناك آليات واضحة للمساءلة أو عندما تتداخل الصلاحيات بين الجهات، تتعثر المبادرات في دوامة من القرارات غير المنسقة والتأخير في الإنجاز. كما أن ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية يؤدي إلى تضارب أو تكرار في الجهود، ما يقلل من الكفاءة ويهدر الموارد.
عامل آخر هو ضعف مؤشرات الأداء والتقييم الدوري. فالاستراتيجيات التي لا تُراقب بانتظام ولا تُعدَّل بناءً على المتغيرات، تفقد مرونتها وقدرتها على التكيف. وفي بعض الأحيان يؤدي التركيز على الأهداف الكمية دون الالتفات إلى الأثر النوعي إلى تنفيذ شكلي يُعكس على التقارير والأرقام دون أن يحدث فرقاً حقيقياً.
ثقافة المؤسسة تلعب كذلك دوراً مهماً. ضعف الالتزام المؤسسي أو انعدام الحافز لدى العاملين على تنفيذ الاستراتيجيات، قد يُفشل حتى أقوى الخطط. فبدون شعور بالملكية والمساءلة تتحول الاستراتيجيات إلى ملفات نظرية يُعاد إنتاجها دون تغيير حقيقي.
في هذا السياق يُعد إطلاق نموذج حوكمة الاستراتيجيات الوطنية في المملكة العربية السعودية مؤخراً خطوة جوهرية لسد هذه الفجوة. فبناء إطار واضح يحدد الأدوار ويضمن المتابعة والتقييم ويوفر آليات تصعيد فعالة عند التعثر، يشكل حجر الأساس لتقليص الفجوة بين ما يُرسم وما يُنفذ.
ومع دخول رؤية 2030 مراحلها الحاسمة، فإن التركيز لم يعد على صياغة رؤى جديدة، بل على تنفيذ ما تم إقراره بكفاءة عالية. وتحقيق هذا يتطلب أكثر من نوايا طيبة وخطط طموحة؛ إنه يتطلب نظاماً محكماً يُحوّل التوجيهات إلى إجراءات، ويضمن أن تكون الاستراتيجيات أدوات فعل لا شعارات.
إن معالجة فجوة التنفيذ ليست مهمة فنية فحسب، بل هي مسؤولية قيادية ومؤسسية تتطلب شجاعة المراجعة ومرونة التعديل والتزاماً طويل الأمد ببناء ثقافة تنفيذية تُقدّر الفعل فوق القول والنتائج فوق الوعود.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال