لماذا نهرب إلى أرضٍ لا يُشبهها وطن؟ هل موسم السفر متعة شخصية أم نزيف اقتصادي؟

في لحظةٍ ما، يتوه الإنسان بين ما يريده حقًا، وما اعتاد فعله عامًا بعد عام. نركض أحيانًا خلف الشعور ذاته، نكرّره دون وعي، نحجز، نجهّز، نسافر، نلتقط الصورة ذاتها من الزاوية ذاتها، ثم نعود وقد أنفقنا ما لا يُعوّض، لا فقط من المال، بل من الطاقة والفرصة.

من قال إن الانفصال عن المكان هو الطريق الوحيد للراحة؟ ومن أوحى إلينا بأن السفر خارج الحدود هو التجديد الحقيقي؟ ولماذا أصبح الصيف مرادفًا للمطارات، وكأن البقاء خيار العاجزين؟

في كل عام، تتكرر الظاهرة: نزوح جماعي مؤقت إلى الخارج. وفي الغالب، تكون الرحلة استجابة لا لحاجة داخلية، بل لضغط مجتمعي، أو توق إلى “الهروب الموسمي” المعتاد. لكن خلف هذه المتعة الشخصية، هناك كلفة اقتصادية تتجاوز الأفراد، وتستنزف جزءًا مهمًا من السيولة الوطنية، وتعيدنا إلى سؤال محوري: هل فقدنا إيماننا بما نملك؟ أم أننا لم نره بعد؟

استقبلت السعودية في عام 2024 أكثر من 115.9 مليون سائح داخلي وخارجي، بزيادة 6% عن العام السابق. وكان من بينهم 86.2 مليون سائح محلي أنفقوا نحو 115.3 مليار ريال، بنسبة نمو تجاوزت 0.8%. فيما بلغ عدد الزوار القادمين من الخارج 29.7 مليون زائر، بإنفاق تجاوز 168.5 مليار ريال، بزيادة كبيرة نسبتها 19%. وبلغ إجمالي الإنفاق السياحي 284 مليار ريال، بنمو واضح نسبته 11% مقارنة بعام 2023.

ما يلفت النظر أن هذه الأرقام ليست حالة استثنائية، بل مسارًا مستمرًا من النمو، حيث تُظهر المقارنة مع عام 2023 أن عدد السياح ارتفع بنسبة 6%، فيما قفز الإنفاق السياحي بنسبة 11%. هذا التزايد السنوي يعكس ثقة متنامية من المواطنين والمقيمين في التجربة السياحية داخل المملكة، ويؤكد أن ما تحققه رؤية السعودية 2030 ليس وعودًا مؤجلة، بل واقعًا ملموسًا يتطور عامًا بعد عام.

في عمق هذا التحول، جاءت رؤية السعودية 2030 لتقلب المعادلة. فالمملكة التي كانت تُعرف بتنوّعها الجغرافي، أصبحت تُعرَف اليوم بتجربة سياحية متكاملة، صنعتها الإرادة، وغذّتها المواسم، ورسّختها مشاريع نوعية مثل العُلا، وأبها، والطائف، والدرعية، والبحر الأحمر، والعقير، والبجيري، والبوليفارد، وسودة، وموسم الرياض، وموسم جدة، وغيرها من الوجهات التي تحاكي العالم، بل وتتفوق عليه في كثير من التجارب.

ولا يمكن الحديث عن السياحة في المملكة دون التوقف عند السياحة الدينية، التي تمثل العمق الروحي والتاريخي للمملكة، وتستقطب ملايين المسلمين من كل أنحاء العالم. ومن أولويات قيادتنا الرشيدة دعم الحرمين الشريفين بكل ما يعزز خدمة ضيوف الرحمن، من توسعات كبرى، وتطويرات نوعية، وخدمات مميزة ترتقي بتجربة الزائر. وقد شهدت الأعوام الأخيرة تطورًا هائلًا في البنية التحتية والمرافق والخدمات في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ما جعل تجربة الحج والعمرة أكثر يسرًا وتنظيمًا، بل وتحولت لكثير من الزوار إلى رحلة روحانية وسياحية متكاملة. فالسعودية اليوم لا تقدم فقط مناسك، بل تقدم تجربة إيمانية وثقافية تضاهي التجارب العالمية من حيث التنظيم والجودة، وتعزّز من موقعها كوجهة أولى للمسلمين.

ومع التأكيد أن بعض حالات السفر الخارجي للعمل أو العلاج أو الدراسة تمثل ضرورة واقعية لا خلاف عليها، إلا أن الحديث هنا يخص السفر السياحي الترفيهي، الذي يُمارس أحيانًا من باب التكرار أو المجاراة، لا من باب الحاجة أو القيمة.

ولمن يظن أن السفر للخارج هو السبيل الوحيد للهرب من حر الصيف أو للبحث عن طبيعة خلابة، فليتأمل في أبها وجبالها، والطائف وبرادها، والباحة وجمالها، والعُلا بتفاصيلها الساحرة. في السعودية تنوّع مناخي وجغرافي يُغني عن التذكرة الدولية، ويمنحك تجربة لا تقل روعة عمّا في الخارج، بل تمتاز بالقرب والانتماء.

لم يعد هناك مبرر للهروب، ولا مسوّغ لإنفاق الملايين خارج الحدود. فكل ما كنا نبحث عنه من جمال، وهدوء، وترف، ومغامرة، بات موجودًا هنا، على أرضٍ نعرفها، وتعرفنا. نحن لا نحتاج إلى السفر لننبهر، بل نحتاج إلى أن نعيد اكتشاف السعودية بعيون جديدة.

إن دعم السياحة الداخلية ليس خيارًا ترفيهيًا بقدر ما هو موقف وطني – نُسهم من خلاله في تحريك عجلة الاقتصاد، وتوسيع فرص العمل، وتعزيز المحتوى المحلي. السعودية اليوم لا تطلب منا السفر داخلها مجاملة، بل تُدهشنا فعلًا بما صنعت من مواسم، وبنية تحتية، وتجارب استثنائية لم تكن متاحة قبل أعوام قليلة. فلنكن جزءًا من هذه القصة العظيمة، لا متفرّجين عليها من الخارج. ولنجعل من كل رحلة داخلية رسالة ولاء، ومن كل صورة في ربوع الوطن أداة تسويق حيّة لما تحقق في ظل رؤية السعودية 2030.

ختام القول.. الوطن الذي تتنوع على أرضه الأجواء والطبيعة والنجيل والخضرة، لا يُغادره إلا من لم يتأمله جيدًا.

فالسفر للخارج لم يعد ضرورة، ولا ترفًا لا بد منه، بل غفلة تُستدرك ووعي ينتظر أن يُوقظ.

سافروا في وطنكم، وعيشوا جماله، وكونوا جزءًا من رواية وطن يصنع مستقبله، ويستحق أن نحمله معنا في كل صيف، لا أن نهرب منه.

وكمواطن يكتب هذه الكلمات، أقول بثقة: مهما سافرت لأي دولة في العالم، لن تجد مثل السعودية في أمنها، وطمأنينتها، وراحة قلبك فيها.

استمتعوا في أرض وطنكم، فهنا الأمان، وهنا الجمال، وهنا الحكاية التي تستحق أن تُروى.